الخلفيات السياسية والثقافية لقرار الأمم المتحدة في حق التدخل.
شكري تيساوي
باحث في علم اجتماع التنمية
إن الحديث عن الغرب ومصائبه في هذه الفترة لا يروق لي وأرى أنه ذوقيا في غير محله ومع ذلك أجد نفسي مدفوعا بقوة للعودة في كل مرة للتفكير والحديث معا ، عن هول ما أرى ،لا أعتقد أن عتاة الفلسفة أو الاجتماع إضافة إلى ميئات مراكز البحث (ثينك تانك) تصوروا للحظة واحدة هذا السقوط الأخلاقي المدوي لما عملوا على بنائه طيلة قرون أي منذ عهد التنوير (وهو عهد بروز النظام الرأسمالي كما يقول ماكس فيبر) ،كل هذا البناء الفلسفي ونظرته للإنسان والمادة والمجتمع والعقد الاجتماعي بكل أبعاده ،أرى أن كل هاته الفلسفة تتهاوى في وضح النهار وبشكل تلقائي لم تسعى الشعوب الأخرى لإحداثه بل هي أعجز من أن تفعل ذلك .
أنا أشعر بالحيرة والعجز عن الفهم ،هل يمكن أن تكون هذه فرنسا بلد الثورات وإعلان حقوق الإنسان فرنسا التي ما انفكت منذ القرن 19 تعطي دروسا لكل شعوب العالم في الديمقراطية وحقوق الإنسان، فرنسا التي افتكت من الجمعية العامة للأمم المتحدة مبدأ حق التدخل في شؤون الشعوب التي تقدر هي أنهم لا يتمتعون بحقوقهم كاملة ،هذه الدولة التي ينتصب مثقفوها وفلسفتها وإعلامييها في المنصات التلفزية يشكل يومي ليخوضوا بحماسة في كل الأحداث التي تجري على الكرة الأرضية وينهونا حديثهم بتوزيع العلامات الإيجابية أو السلبية على الأشخاص والأحداث في كل أصقاع الدنيا بكل ثقة وأحيانا بكثير من العنجهية على قاعدة أنهم هم من أسسوا للعلاقات الاجتماعية السليمة التي أسس لها جان جاك روسو وهم من يقدرون قيمة الإنسان كما تعلموها من ثروة 1789 وهم من وضع أسس بل وأعلن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،كل ذلك على قاعدة الديمقراطية الليبيرالية كما تحدث ماكس فيبر عن نشأتهاوأسسها واعتبر أن ما وصل إليه الغرب في هذا المجال هو أفضل ما يمكن أن تنجزه الإنسانية وحذا حذوه العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وهم كثر ومع ذلك سأذكر رجل الاقتصاد والمالية والإحصاء والفلسفة الفرنسي : جاك آتالي والفيلسوف والإعلامي الأمريكي الشهير جداو ناعوم تشومسكي وآخر العنقود الفيلسوف الليبيرالي الفرنسي ميشال أونفراي، كل هؤلاء لازالوا يعاصرون معنا أحداث ما سموه هم، الربيع العربي ويتابعون معنا انتشار وباء الكورونا وقد كتبوا وتحثوا جميعهم في المسألتين، لقد تحدث ثلاثتهم في الثلاثة عقود الأخيرة عن النظام الكوني الجديد المبني على الديمقراطية الليبيرالية وقد كانوا يعون ما يقولون وأقصد بكلمة وعي أنهم كانوا يعلمون ومعهم كل المؤسسات والدول والمثقفين أن المعايير التي وضعوها لهذا النظام الجديد لا تصلح لإدارة الحياة الاجتماعية في باقي المجتمعات والحضارات ولكنهم ومن ورائهم دولهم ،استماتوا في الدفاع عن فلسفاتهم ورؤيتهم للحياة المجتمعية واعتبروا أن كل الأفكار المختلفة عن رؤاهم هي تعبيرات بليدة عن حالة من التخلف أو الاستبداد وأن تلك الأفكار تحرم شعوب عديدة من خارج العالم الديمقراطي من كل حقوقها ،وقد سخروا للدعاية لأفكارهم الإعلام والسينما وكل الأشكال الفنية والمالية والجمعياتية الممكنة وقد استمال هذا المنطق القدر الأوسع من المثقفين والسياسيين في كل البلدان،وهنا أعود إلى فرنسا التي تعد قبلة المتعطشين للحداثة والتطور الاجتماعي ولاقتصادي والعدالة في الحقوق والحريات ولطالما استبسلت فرنسا في التدخل في شؤون دولنا ودول أخرى للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحريات والتآخي الإنساني والتضامن في مواجهة الأزمات المناخية والحربية والوبائية بكل أشكالها ،وفي أول مناسبة تواجه فيها الإنسانية أزمة وبائية شاملة نكتشف هول المغالطة والنفاق التي عجزنا على تلمسه منذ 1945 تاريخ انطلاق الدول الكبرى في التبشير بعالم جديد ،اكتشفنا أن فرنسا التي تميزت عن غيرها من الدول بوقاحة الخطاب الموجه للعالم كله في شكل دروس في السياسة والديمقراطية والأخلاق والذوق، شاهدنا كيف تهكمت فرنسا على الصين من خلال مختلف القنوات الخاصة والعامة لما سارعت الصين بفرض الحجري الصحي على منطقة يوهان وشككوا في الأرقام المقدمة من قبل السلط الصحية وهولوا من الظاهرة لإعطاء انطباع بأن النظام الصيني فشل في مواجهة الأزمة ،وكنت أتساءل دائما هل هذا وقت مناسب للنقد ، ألم يكن من الأجدر أن يعبر مفكرو فرنسا وإعلامييها وسياسييها عن تعاطفهم واستعدادهم للمساعدة ؟
وستزداد الصورة قتامة عندما وصل الوباء إلى إيران حيث برزت حالة من التهكم واللامبالاة العنصرية
تلاها الرفض الصريح لمد إيطاليا بأجهزة التنفس والكمامات لما طلبت إيطاليا المساعدة من فرنسا وألمانيا وهو ما اضطرها إلى التوجه نحو الصين التي لم تتأخر في توفير التجهيزات المطلوبة ولم تكتفي بذلك بل أرسلت فريقا طبيا للمساعدة، لم تكتفي فرنسا بذلك بل حجزت كل الأجهزة والمعدات المصنعة محليا ،رغم الإمكانيات الصناعية الهائلة التي تمتلكها والتي يمكن تحويلها بسرعة لإنتاج الأجهزة المطلوبة لفرنسا ولغيرها من البلدان المحتاجة مثل تونس التي توجهت لها كذالك بطلب أسرة طيبة وكان ردها بالرفض ،أمام كل هذه المواقف يصطدم كل من كان يؤمن بالشعارات الإنسانية التي كانت ترفعها فرنسا عن حسن نية أو عن جهل ،أكثر من ذلك فقد قد قالها بيترو سانشيز رئيس حكومة اسبانيا في خطابه اليوم 25 مارس2020 بينما قام ناشطون ايطاليون بإنزال علم الإتحاد الأوروبي ورفع علم الصين مكانه “كما أنني لا اعتقد أن الحركة كانت عفوية وصادرة عن شخص يمكنه أن يعبر عن رأيه في ظل نظام ديموقراطي”.
لقد كنت دائما أقول أن الغرب الأوروبي امتلك عملة أقوى من الدولار الأمريكي منذ نهاية حالة افستعمار المباشر ،هذه العملة هي النفاق بصدق وإخلاص ،إنه نفاق موجه موجه لشعوب العالم ولكن كذلك للشعوب الأوروبية لكي يتمكنوا من تحقيق أهدافهم السياسية والمادية بأقل الأضرار ،ألم ينبني النظام الرأسمالي على الوهم والإيهام كما قال جورج جورفيتش،ولكن يبدو أن ازمة الكرونة قد عجلت بفضح هذا النفاق ،حيث وجدت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأمريكا في مواجهة خيار صعب وهو التضحية بالإنسان مقابل الحفاظ على الاقتصاد أو العكس وقد كانت الإجابة سريعة ومدوية فقد اختاروا جميعهم الاقتصاد وتخلوا على الإنسان الذي طالما قوضوا حكومات واطاحوا بحكام وغيروا أنظمة باسم الإنسان وحقوقه المادية والسياسية ،وهاهم في أول اختبار حقيقي يطيحون به دون تردد ،فرفعوا جميعهم شعار اكتساب المناعة الجماعية وكان المقصود من ذلك ترك الوباء ينتشر في بلدانهم فيسقط الضعفاء والمسنون ويتحصل البقية القادرون على العمل والإنتاج على مناعة طبيعية ،أي أنهم كانوا ولا زالوا يتمسكون بهذا الخيار رغم حالة الفزع والاشمئزاز التي حلت بالعالم وبشعوبهم جراء ما صرحوا به فقد قال الرئيس ترامب وكذلك حاكم ولاية تكساس أنه لا يمكن إيقاف عجلة الاقتصاد من أجل وباء عابر وردد رئيس فرسا ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسن، نفس الأفكار وتراجعوا عن تصريحاتهم سريعا تحت وطأة ردة فعل شعوبهم عبر شبكات التواصل الاجتماعية وقد كان تراجعا تكتيكيا حيث عادوا لتمرير تصوراتهم الليبيرالية بجرعات متتالية وقد علق الصحفي الفرنسي فرانز-أوليفيي- جيزبارت في مقالة صحفية “إننا لازلنا نرغب في تقديم الدروس للعالم” والغريب هو هذا المزج بين العنجهية العنصرية والنفاق الظاهر في الالتزام بين المبادئ المعلنة والأهداف الخفية التي تتبناها الحكومات ووسائل إعلامها ومفكريها ،ألم يفتك برنار كوشنار وزير الخارجية الفرنسي السابق من مجلس الأمن حق الدول الديمقراطية في التدخل في شؤون الشعوب الأخرى حفاظا على مصالح الشعوب وحقهم في العمل والصحة والأمن