توطئة
كنت كتبت منذ سنة 2014 عن ملامح التنظيم الإداري الجديد ’ و تساءلت عن شكل التنظيم اللامركزي الذي نريد , و نبهت إلى خطورة الاعتماد على المفاهيم العامة كما تساءلت عن الفائدة من تعميم النظام البلدي ’ ليس رغبة مني في تجاهل الريف الذي لازال يمثل إلى يومنا هذا حوالي 70 % .وإنما لقناعتي أن البلديات القديمة و المحدثة لن تستطيع الاستجابة إلى حاجات الريف و المدينة معا ’ و لو تم الترفيع في ميزانياتها ’وهو ما سيتم و لكن بعد سنوات و لقناعتي أن البلديات القديمة و المحدثة لن تستطيع الاستجابة إلى حاجات الريف و المدينة معا ’ و إذ ما تم تحويل الإعتمادات الجهوية التي كانت تحال للمجلس الجهوية لفائدة الريف إلى البلديات فمن سيضمن حق السكان الريفيين و هم غير فاعلين ضمن المجالس البلدية حيث أن جل الاستثمارات ستوجه لمعالجة المشاكل المتراكمة (بلديا)وهو ما سيتطلب زمنا طويلا قبل الالتفات إلى المناطق الريفية .و ها نحن اليوم و بعد سنة و نصف من تركيز المجالس البلدية ’ نلاحظ غياب هذه المناطق الريفية في كل البرامج الخاصة بالنظافة أو التعبيد أو الترصيف أو حتى زيارتها ( ما عدى بعض البلديات ) و الالتقاء بسكانها .
ونلاحظ كذلك أن هناك 80 مجلسا بلديا لم يعقدوا الدورات العادية وهو الإطار القانوني الذي يشرع الإجراءات البلدية بكل أنواعها ونلاحظ كذلك أن برامج الاستثمار البلدي لسنة 2020 لم يتم تطبيق مقتضيات القانون الأساسي عدد 29 المتعلق بتنظيم عمل الجماعات العمومية المحلية و القاضي بعرض برامج الاستثمار على السادة أمناء المال عوضا عن المجالس الجهوية و الغريب أن السيد وزير وزارة الشؤون المجلية قد عمم منشورا يدعو فيه البلديات إلى عرض برامجهم على أمناء المال , “إن اقتضى الأمر” وهو أغرب منشور تتلقاه الإدارة التونسية , وبالطبع لم يتلقى اغلب أمناء المال هذه البرامج بل إنني أتساءل إن كانوا على علم بالإجراء الجديد .
كما نسجل إعادة إلحاق رؤساء البلديات بالنيابات الخصوصية للمجالس الجهوية كأعضاء قارون بعد أن تم فصلهما منذ ثلاثة سنوات وهو إجراء مناقض للقانون الأساسي عدد 29, حيث تحصلت البلديات على صلاحياتها و أصبحت مستقلة تماما عن المجالس الجهوية و السبب في رأيئ (وهو صحيح ) هو انه لا يمكن إعداد المخطط الخماسي للتنمية الذي يشمل بالضرورة المشاريع البلدية و الجهوية و الوطنية و لا يمكن تقنيا إنجاز المخطط إذا لم تكن البلديات بالمجلس و لها صلاحية التصويت داخل المجلس لذلك دعا المنشور عدد … إلى إلحاقها البلديات بالمجالس الجهوية من جديد والتفسير الثاني هو تمسك عدة مجالس بصلاحياتها والاستقلال عن المجالس الجهوية ولم تتمكن من التصدي للمشكلات اليومية حتى البسيطة منها ثم عادت لطلب مساعدة الولاة الذين فقدوا بشكل فعلي صلاحية التدخل والتحكيم بين البلديات وكذلك المواطنين ،و السؤال هو ماذا أنتم فاعلون في المستقبل حين تستقل البلديات بشكل فعلي عن المجالس الجهوية و من سيعد هذه المخططات وهو ما يدفعنا لطرح الأسئلة التالي:
- ما علاقة المخطط التنموي البلدي ( يُعد حسب مشروع القانون كل 3 سنوات ) بالمخططات التنموية الجهوية الخماسية وما هي آليات الربط بينهما ؟
أو بمعنى آخر :
- ما هي علاقة البرامج التنموية البلدية ضمن نطاق الجهة ببعضها وهل يمكن الحديث عن رؤية لتنمية جهوية وإقليمية متكاملة في ظل التنظيم الإداري الجديد خاصة وأن كل جماعة محلية تختص بحرية التدبير ضمن مجالها الترابي و لا تخضع لأية صبغة إلزامية في التعامل مع باقي بلديات الجهة ؟
- ما هي الآليات القانونية التي تمكن السلطة أو المؤسسات اللامحورية من أعطاء قراراتها أو اعتراضاتها على القرارات البلدية، صبغة إلزامية (هناك خلل في إعطاء سلطة لا محورية صلاحية المتابعة أو الاعتراض على قرارات مجالس منتخبة إذ يمكن للأخيرة وفي ظل المناخ الديمقراطي الحالي أن تتمرد على هذه القرارات أو الاعتراضات)؟
- هل يملك السيد أمين المال الخبرة والاختصاص للنظر للبرامج التنموية المحلية قبل المصادقة عليها جهويا وعدم الاقتصار على الموازنات المالية الصرفة( كانت البرامج التنموية البلدية تُعد بشكل فعلي بين مصالح البلدية والمجلس الجهوي الذي يُجند المصالح الفنية الجهوية ( expertise ) لفائدة البلديات؟
- هل تملك البلديات القدرة والخبرة البشرية لإدارة الحوار مع المصالح المركزية للبتّ في برامجها التنموية في ظل غياب مرجعية جهوية اكتسبت هذه الخبرة على مدى السنين السابقة (المصالح الفنية للمجلس الجهوي والإدارات الجهوية)؟
- كيف يمكن التوفيق في إعداد أمثلة تهيئة عمرانية محلية متناسقة مع السياسات العامة والجهوية والإقليمية في ظل إنجاز كل جماعة لمخططها العمراني بشكل منفرد وفي ظل ضعف الموارد البشرية والخبرة للمجالس الإقليمية المزمع إحداثها وفي ظل صعوبة التنسيق بين الجهات والقدرة على إيجاد التناسق المطلوب بين مكوناتها إضافة وأن دور المجالس الإقليمية هو دور استشاريا بالنسبة للسلطة المركزية ( حسب النص )؟
- كيف تتصورون دور المجالس البلدية وخاصة الفقير والجديدة منها، خلال العشرية القادمة في ظل شح موارد الدولة (رغم الحديث عن التمييز الإيجابي وعن آليات التعديل للحد من الفوارق الجهوية ضمن مشروع القانون الحالي) وكذلك في ظل ضعف خبرتها ومواردها البشرية وفقدانها دعم المصالح الفنية للمجالس الجهوية ؟
- ما هو مآل آليات التنسيق والتعاون بين البلديات في ظل ربطها بالخيارات الإرادية للجماعات المحلية ( ليست هناك أي صلة إلزامية لعملية التنسيق والتعاون بين بلديات الجهة الواحدة)؟
- كيف يمكن للبلديات ذات الصبغة الفلاحية أن تنمي مواردها الذاتية (وجوبية تتطور الموارد الذاتية حسب النص )، أي الجبائية أساسا في ظل انعدام الاستثمار الخاص بها ( نزل – مصانع – فضاءات تجارية ….) وهل ستضمن الدولة تمكين هذه البلديات من البُنى التحتية والتجهيزات الضرورية وتأمين عمليات النظافة والتنوير العمومي والترصيف …بغض النظر عن نسبة تحصيلها الجبائي، وهو مؤشر من المؤشرات المُعتمدة في تحديد مساهمة الدولة في تمويل الجماعات من المال المشترك ( هذا الدور كان يلعبه المجلس الجهوي ) ؟
- ألا يمكن أن تخلق هذه الخيارات فوارق جديدة وهامة بين البلديات الغنية وباقي البلديات في ظل غياب المجلس الجهوي الذي كان يلعب دورا تعديليا في الجهة على الأقل ؟
نحن لم نأتي على كل المشاكل التي طرحها الواقع المادي منذ انتخبات 2018 لكثرتها و لكننا سنكتفي بذلك لنذكّ ر من جديد ،بالاخلالات التي تضمنها القانون الأساسي عدد 29 والتي كنا نبهنا إليها قبل المصادقة على هذا القانون ومن أهمها انفصال البلديات عن بعضها وضياع المشاريع المشتركة في المجالات الصناعية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها من الشاريع دون الحديث عن العجز في الأداء والذي كانت المجالس تحاول أن تحدّ من نتائجه.
الجهوي والمحلي الفلسفة والأهداف :
إن أهم استنتاج يحصل لدينا عند دراسة الباب السابع من دستور 2014 وخاصة من مشروع مجلة الجماعات العمومية المحلية هو القفز على المؤسسات الجهوية وتغليب البعد المحلي، من خلال إسناد جل الصلاحيات الإدارية للبلديات كنتيجة حتمية لتغطية التراب التونسي بالنظام البلدي، في مجتمع لازال ريفيا بنسبة 75 % إضافة إلى غياب المعرفة لدى عامته مثل نخبته بالعمل الإداري وإدارة العملية التنموية وتركه للأمر بيد الإدارة المركزية و مؤسسة الوالي منذ 1956.
فقد تقلص مجال نفوذ المجالس الجهوية ترابيا وديموغرافيا و تقلصت معه الصلاحيات بجميع أصنافها ومستوياتها، تبعا لما يقترحه مشروع قانون الجماعات المحلية الجديد، في فترة تحتاج فيها الجهة إلى إفراز قيادات جهوية تكون قادرة عبر مراكمة التجربة على التشخيص والبرمجة والتنفيذ والمراقبة ومعاضدة المركز من خلال تحويل الجهة إلى فاعل اقتصادي واجتماعي يمارسه شراكة وطنية مسؤولية وواعية ويبتعد عن خطاب المظلومية ويطرح بدائل تعبر عن حاجات الواقع الجهوي بموضوعية.
أما الاستنتاج الآخر الهام والذي نستخلصه من قراءة المجلة فهو ضمور البعد التنموي الجهوي في التصور العام لواضعي هذا المشروع
ونعتقد أن من صاغ هذا الفصل قادته فلسفة تُعطي أهمية للعملية السياسية على حساب التنمية وقد تمت ترجمة هذه الفلسفة في كل الفصول اللاحقة التي أولت اهتماما خاصا بإدارة العملية السياسية على المستوى المحلي ووضعت لها ميكانيزمات ومؤسسات بيروقراطية متطورة في عناوينها ولكنها لم تُولي طبيعة المرحلة والنسق المجتمعي الراهن أيّ اهتمام، نافية دور القيادة البشرية وقدرتها على التفاعل مع طبيعة مجتمعنا الذي لازال يعاني من ظاهرة القبلية والجهوية، حيث لا يمكن فض المشاكل الناجمة عن تنازع المصالح بين المؤسسات باللجوء إلى المحاكم الإدارية أو الغرف الجهوية للمحاسبات ، وإنما لازال يحتاج إلى سلطة وتأثير القيادة الجهوية والمحلية، حيث يضل دور الفاعل السياسي مؤثرا بل ومطلوبا ضمن مجتمع لا يملك ثقافة المؤسسات ويحتاج إلى فترة من الزمن لتمثل جملة المفاهيم الجديدة، وفي الأثناء لابد للعملية التنموية أن تتقدم دون عراقيل جديدة، ونرى أنه يتوجب حتما تنقيح الفصل الأول بالتنصيص على أن التنمية الجهوية هي أحد أهم أهداف التنظيم اللامركزي وهو ما سيؤثر حتما على فلسفة الصياغة العامة للمجلة.
وقد سجلنا كذلك خلط واضح في استعمال مصطلحي “المحلي ” و “الجهوي ” ضمن المشروع قانون الجماعات العمومية المحلية ومثال ذلك مضمون الفصلين 28 و 33 من المجلة و كذلك ضمن الجزء المتعلق بشرح الأسباب ومردُ ذلك في رأينا هو الاعتماد على الأدبيات الفرنسية التي اعتمدت مصطلح “المحلي ” منذ 1789 ولم يظهر عندهم مصلح الجهة بما يعنيه من مضامين واستتباعات قانونية إلا سنة 1956 ثم تأكد في أواخر القرن العشرين حيث تم بعث مجالس جهوية (قانون 5 جويلية لسنة 1972، الفصل عدد1 )، وبالتالي فإنه لا قيمة لهذا المستوى الإداري في الثقافة الفرنسية التي عرفت التطور الصناعي والاقتصادي والعمراني والثقافي مع مؤسسة البلدية، في حين استقر في وعي المواطن التونسي أن المجلس الجهوي هو قاطرة التنمية وستضل هذه القناعة راسخة في اللاوعي الجمعي إلى حين، وفي الأثناء نحن بحاجة للبحث عن أنجع السبل لتأطير وقيادة الرأي العام الجهوي عبر عملية فرز طبيعية للعناصر الأكثر قدرة على تشخيص الواقع الجهوي والتعبير عنه من خلال العمل والدربة ضمن المجالس الجهوية ، من أجل ضمان تنمية عادلة ومتوازنة بين الجهات ، خاصة في ضل شح الإمكانات المالية للدولة على المدى المتوسط وربما البعيد. ودون الإطالة في الخوض في هذا الباب لأن المجال لا يتسع له، نرى أنه لابد من توضيح مجال المصطلحين ضمن القانون الأساسي للمجلة و الالتزام بالدقة في استعمالهما وعدم القفز على الجهوي نحو المحلي في صياغة الخطاب وإعداد التصورات على مستوى المجلة ، وهو ما سنحاول إبرازه ، دون التشكيك في دستورية المشروع المقترح حيث أن الدستور الحالي يحتمل أكثر من اجتهاد في مجال اللامركزية وهذه المجلة هي واحدة من هذه القراءات ولكنها ليست حجة على أي اجتهاد آخر ما لم يخالف دستور 2014.
تعميم النظام البلدي
المجلس البلدي هو صنف من أصناف الجماعات العمومية المحلية وهو “يمارس الصلاحيات الذاتية التي تكتسي بعدا جهويا بحكم مجال تطبيقها” طبقا للفصل 18 من شروع مجلة الجماعات العمومية المحلية وتتمتع الجهة بصلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية (الفصل 288) مثل باقي الجماعات المحلية وهو يختص “مبدئيا بتصريف الشؤون البلدية والبت فيها (فصل 322) وهو يتولى “بوصفه مكلفا من طرف الدولة” بتنفيذ القوانين والتراتيب الجاري بها العمل بالبلدية والقيام بكل الوظائف التي يسندها القانون لرئيسه” (الفصل 288) وهو مدعو بمقتضى الفصول 110و 160 و 164 لإعداد المخططات التنموية وأمثلة التهيئة العمرانية وعرضها على أمانة المال الجهوي التي يحق لها طلب توضيحات, ثم يتم تقديمها إلى المصالح المركزية قصد المصادقة عليها وفتح الإعتمادات المخصصة لتنفيذ البرامج، وهو يخضع للسلطة الرقابية لأمانة المال ومؤسسة الوالي بالجهة
و لا نرى كيف يمكن للبلديات الحالية بصفتها الجديدة أن تُشرف على المشاريع القطاعية الجهوية( تصّورا وتنفيذا و متابعة) في ظل غياب العنصر البشري وعدم توفر الخبرة الكافية للمصالح الفنية بالبلديات للتعامل مع هذا الصنف من المشاريع (أو على الأقل لجزء هام منه) والذي كانت تشرف على إنجازه مصالح المجلس الجهوي و راكمت في شأنه خبرات بشرية هامة لا يمكن في اللحظة الراهنة الاستغناء عنها رغم النقائص المسجلة في شأنها (أنضر الفصل عدد 16 من المجلة).
وهل يمكن لهذه البلديات أن تصمد في وجه مظاهر التوتر الاجتماعي الذي سَينتج حتما بسبب مُطالبة سكان التجمعات السكانية الريفية بحقهم في الخدمات البلدية كما ينص عليه الفصل 232 من المجلة,إذ في انتظار أن تتعزز الموارد الذاتية للجماعات المحلية كما ينص على ذلك الفصل عدد 8 و عدد 124 من مشروع المجلة (و هو أمر شبه مستحيل بالنسبة للبلديات ذات الطابع لفلاحي) وكذلك تطوير الموارد المُحالة من الدولة (أنظر فصل 101 و 139 من المجلة) لإنجاز المرافق العمومية والبني التحتية, فإن طبيعة المرحلة ستفرض على البلديات صراعا حادا مع سكانها بحكم عجزها المتوقع على تلبية حاجاتهم الشرعية بحكم النص القانوني.
وإننا وإن كنا نؤمن بهذا الحق, وأكثر من ذلك، إذ نرى أنه لا تنمية جهوية بدون تطوير الفضاء الريفي, فإن أسلوب معالجته سيخلق تعقيدات إدارية جديدة, ستزيد من تأزم الوضع التنموي في الجهات وتعطيل نسق الإصلاح المطلوب, إذ سيتشتت جهد الإدارات والمصالح الفنية، على قلة مواردها البشرية، في معالجة كل الملفات التنموية والاجتماعية وغيرها على مستوى محلي بعد أن كانت في الجانب الأهم منها تعالج على مستوى جهوي, وهو ما سيتسيب في إهدار الوقت و الطاقة و ربما استحالة التوفيق (بشريا) في الاستجابة إلي طلبات البلديات وهو ما يعني تعطيل نسق الانجاز و إرهاق الإدارة الجهوية و خلق حالة من التوتر الإداري الدائمة و انقطاع التواصل بين مختلف المتدخلين.
الجماعات المحلية والعمل التنموي
غياب العلاقة العضوية بين المجالس المحلية بالجهة :
إن أهم ما يميز هذا الباب من قانون الجماعات العمومية المحلية هو غياب الرؤية والتصور المتكامل للمشروع التنموي الجهوي الذي يفترض فيه أن يكون الرافعة المستقبلية لمنوال تنموي وطني جامع، يعتمد على مبدأ التوازن بين الجهات مع مراعاة الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية , حيث نلمس من خلال دراسة كامل فصول المجلة غياب الآليات القانونية والمؤسسات الضامنة للعمل المشترك بين الجماعات المحلية في الجهة الواحدة، والاستعاضة عن ذلك بإقرار مبدأ التعاون والتضامن والتنسيق الإداري أي الغير ملزم للبلديات كما تبينه كل الفصول المتعلقة بباب العمل التنموي كما ورد بالفصول عدد: 10 و11 و19 و20 و 22 و 42 و 45 و 110 و 269 و 270 و 272 و 274 و293 ،إذ تكررت عبارة “يمكن للجماعات” في صياغة أغلب الفصول .
فقد خص مشروع القانون الجماعة المحلية بكل الصلاحيات الترتيبية الأصلية والمفوضة لها من المركـز وأكد ضمن الفصل العاشر أن قيام أية مصلحة أو جماعة مقام جماعة أخرى لإنجاز أشغال معينة ناتجة عن تفويضات أو اتفاقيات, “لا ينتج عنه ممارسة إشراف مهما كان نوعه”, أي أن قاعدة العمل التنموي ومنطلقه هي البلدية ذات السيادة على مجالها الترابي.
وقد اقتصر مشروع قانون الجماعات المحلية ،العمل بين الجماعات المحلية على إحداث بعض الآليات والمؤسسات البلدية لإنجاز الوظائف التنموية مثل إحداث الوكالات الاقتصادية (فصل عدد 75) والشركات العمومية المحلية لاستغلال المرافق العامة ذات الصبغة الصناعية أو التجارية (فصل عدد 99) وإحداث مجامع الخدمات بين الجماعات المحلية (فصل عدد 285 ) ويمكن للبلديات أن تنسحب من الشركات العمومية المشتركة أو مجامع الخدمات إذا لم تجد مصلحة في ذلك.
وتعود السلطة الرقابية على الجماعات المحلية و المؤسسات في ما يتعلق بجدوى عملها وقانونيته إلى مؤسسة الوالي وأمين المال الجهوي والسلطة المركزية دون المرور عبر مؤسسة المجلس الجهوي, الذي أحدثت به طبقا لنفس القانون “لجنة جهوية للتعاون بين البلديات” طبقا للفصل 270 غير أن اللجنة المذكورة ليست لها أية سلطة تقريرية.
وبناءا على ما تقدم يقتضي قانون الجماعات المحلية، إنجاز المخططات التنموية (بما في ذلك المخطط الذي يُعده المجلس الجهوي) على مستوى محلي ويتم عرضه على أمانة المال الجهوي ووالي الجهة طبقا للفصل 102 و 103 ثم يوجه إلى الإدارة المركزية قصد المصادقة ، كما تنجز الجهات والأقاليم أمثلة التهيئة العمرانية بالتنسيق مع المصالح المركـزية طبقا للفصل 109 و تنجز الجهات والأقاليم أمثلتها العمرانية بالتنسيق مع المصالح المركزية كذلك ، طبقا للفصل 110 وحيث أن هذه أمثلة التهيئة العمرانية تخضع لمبدأ الهـرمية (فصل عدد 111) فإن المصالح المركزية تتولى في مرحلة لاحقة التنسيق وجوبا مع المجالس الجهوية والإقليمية (فصل 110) قبل المصادقة على المشاريع المعروضة .
وما يفهم موضوعيا مما تقدم أن عملية إعداد المخططات التنموية وأمثلة التهيئة العمرانية أصبحت تعتمد على حلقتيـن رئيسيتين بل ومُحددتان, وهما المجلس البلدي والسلطة المركزية, حيث تم إخضاع عمليات التحكيم والمقاربة بين البلديات (في ما بينها) وبين الأخيرة والمجالس الجهوية والمجالس الإقليمية إلى سلطة المركز, حيث ينص الفصل 110 على وجوبية استشارة الإدارة المركزية للجهات والأقاليم, أي أن الإدارة المركزية هي التي تستقبل مشاريع المخططات وأمثلة التهيئة العمرانية من الجماعات (كل حد على حده) ثم تقوم بدارستها والمصادقة عليها بعد استشارة الجهات والأقاليم, علما أن الاستشارة لا تلزم من يقوم بها.
المؤسسات المتدخلة في عمل المجالس المحلية :
يقترح مشروع مجلة الجماعات العمومية المحلية ، هندسة جديدة، للعمل البلدي تنبني على مجموعة من مؤسسات الإشراف والرقابة أهمها المجلس الإقليمي والمجلس الأعلى للجماعات والهيئة العليا للمالية المحلية على المستوى الإقليمي والوطني وكذلك على الغرفة الجهوية لدائرة المحاسبات والإدارة الجهوية للمحكمة الإدارية وأمانة المال الجهوي ووالي الجهة في صيغته الجديدة (اللامحورية)، ويُعد إحداث هذه المؤسسات عموما خطوة ايجابية لدعم اللامركزية في الجهات لو لم يقع التخلي عن الجهة (ممثلة في مجلسها الجهوي) كحلقة ربط بين المحلي والإقليمي و الوطني حيث سيتحتم على البلديات أن تعالج ملفاتها الإدارية والتنموية مع المؤسسات المذكورة باستقلالية تامة عن باقي بلديات الجهة ،على الرغم من أنه ما عدى بعض الملفات التقنية الخاصة بكل بلدية على حده فإن أغلب ملفات التنمية والعمل الإداري والتصرف المالي والتخطيط العمراني والعناية بالبعد البيئي هي ملفات مُشتركة كلها أو في جزء هام منها بين بعض أو كل بلديات الجهة الواحدة، وهو ما سينجر عنه موضوعيا تنازع مصالح بين البلديات حول تسيير المرافق العمومية أو استغلالها، إضافة إلى ما سيبرز من مشاكل تخص تحديد طبيعة المشاريع التنموية وضبط الأولويات بين البلديات و رزنامة تنفيذها، وبالرغم من أيماننا المبدئي بكفاءة مؤسسات دائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية وأمانة المال فإن طبيعة الخلافات والمشاكل التي ستثار لن تحسم بالرجوع للنصوص القانونية (الغائبة حاليا) بقدر ما يحتاج حلها إلى قيادة جهوية تعتمد التفاعل الجماعي ضمن مؤسسة جهوية تستمد شرعيتها وقوتها من السلطات المفوضة إليها ولقوة القيادة الجهوية ممثلة في المجلس الجهوي (الذي يتوجب دعم دوره الجهوي) بما يتوفر له من كوادر وخبرات، وقوة إشعاع تمكنه من التصدي لهذه المشكلات وحسمها في آجال سريعة بينما ستضطر المؤسسات القضائية المعنية إلى تطبيق آجال التقاضي والطعن في الأحكام والاستئناف علاوة على إمكانية عدم انصياع المجالس البلدية لأحكامها مُحتمية بشرعيتها الانتخابية، أما بالنسبة لمؤسسة الوالي وهي مؤسسة لامحورية تمثل الدولة في جهتها فإنها تلعب كذلك، دورا رقابيا على الجماعات العمومية المحلية وهي الجهة التي يمكنها أن تثير الدعوى أمام الأجهزة الرقابية المذكورة أو الاعتراض على بعض المشاريع إضافة إلى مراقبة قانونية التصرف الإداري والمالي للجماعات، ومن المرجح موضوعيا أن تكون هذه المؤسسة ضعيفة أولا بحكم انفصالها عن الممارسة الميدانية وثانيا بحكم ضعف الصلاحيات المسندة إليها إذ أنها تكتفي بإثارة الدعاوي وتقديم الاعتراضات سواء أمام أمانة المال الجهوي أو المجلس الأعلى للجماعات أو الحكومة المركزية ولكنها لا تملك سلطة القرار.
لكل هذه الأسباب نعتقد أن مؤسسة الوالي ،وهي واحدة من المؤسسات اللامحورية الجهوية التي سيتم إحداثها،ستكون مؤسسة ضعيفة أمام الجماعات العمومية بكل أصنافها وستتحول إلى عبء على الإدارة الجهوية بحكم افتقادها لدور حقيقي يمكن أن تؤديه ،وهي في النهاية تكرار لتجربة فرنسية ابتدأت منذ سنة 1800م لما كانت البلديات حديثة العهد وكانت المؤسسات اللامحورية بتلك المناطق تخطو خطواتها الأولى في ظل غياب المجالس الجهوية (التي ستُحدث بعد ذلك التاريخ بـ 172 سنة ) فكانت الحاجة لابتداع آلية تنسيق ورقابة تمثل الدولة وتسهر على انسجام العمل بين المجالس البلدية وكذلك الإدارات اللامحورية والأمنية وهي مؤسسة الوالي .
وتنسحب هذه المنهجية في إعداد وإقرار أمثلة التهيئة العمرانية على برامج الاستثمار البلدي (فصل 156) والمخططات والبرامج التنموية وكذلك البرامج الخصوصية مثل البـرنامج الجهوي للتنمية (فصل 172) وبـرنامج الحضائر الجهوية ومشاريع تهيئة وتهذيب الأحياء, حيث يتم إعداد المخططات والبرامج من قبل مجالس الجماعات المنتخبة دون أن تكون هناك آلية مُلزمة لكل المجالس البلدية داخل الجهة الواحدة قصد توحيد التصور ثم تتم مراجعة هذه المخططات والبرامج من قبل أمانة المال الجهوي ومؤسسة الوالي وهي مؤسسات قطاعية لا تمتلك قواعد البيانات والخبرة الضرورية بالجهة لفرض مبدأ الانسجام والتكامل بين بلدياتها ثم يتم رفع هذه المخططات والبرامج إلى الإدارة المركزية التي تعمل على استشارة المجالس المجالس الإقليمية والمجلس الأعلى للجماعات التي لا تمتلك بدورها نفس الشروط المذكورة آنفا وبالتالي فإنها لا تمتلك القدرة على الاعتراض أو تقديم الإضافات لينحصر الأمر موضوعيا بين البلديات و الإدارة المركزية, فنُعيد بذلك رسم تجربة دامت ستون سنة قي تونس, آلت فيها الهيمنة دائما للمركز على حساب الجهات و خاصة الجهات الضعيفة ماديا و بشريا و أنتجت كل أسباب التفاوت الجهوي في ظل إرادة سياسية تسعى إلى إدارة البلادة البلاد بأقل كلفة ممكنة، فأنتجت لوبيات إدارية مركزية تحذق التلاعب بالثغرات القانونية و استغلال ضعف الإدارة الجهوية لتعلن أن كل ما ينجز يجب أن ينبني على الشراكة مع الجهات، بينما يعتمد المركز على تعقيد البناء الإداري البيروقراطي و مسالكه الملتوية ليُعيد الأمر إليه مهما كانت قدرة الجهة على تشخيص وضعها التنموي أو على تقديم الحلول المبنية على تصورات موضوعية استجابة للمشكلات الحقيقية لواقعها ، وبعد طول هذه التجربة السلبية وما راكمته المجالس الجهوية من خبرة مريرة في معرفة واقعها وتشخيص مشكلاته والبحث عن إجابات معقدة لأسئلة أكثر تعقيدا كان يطرحها المركز, قصد افتكاك القليل المُمكن مما كانت تحتاجه الجهات, يبدو أن مشروع قانون الجماعات المحلية الحالي يسعى إلى إعادة هذه التجربة مع المجالس البلدية من خلال القفز على حلقة المجالس الجهوية (التي أصبحت قادرة ولو نسينا على التصدي لمشكلاتها التنموية) والتعامل مع المجالس البلدية التي تفتقر للعنصر البشري والخبرة في تشخيص الواقع التنموي وخاصة في ظل تعميم النظام البلدي إضافة إلى عدم تعود البلديات على العمل مباشرة مع الإدارة المركزية حيث كانت كل البلديات ( ما عدى عواصم البلديات) تخضع لإشراف الولاة ويشرف على عملها الكتاب العامون للولايات ودوائر البلديات التي كانت ولا زالت توفر التأطير (ولو نسينا) والإسناد المعرفي والإداري للمجلس البلدية مُعوضة بذلك عن النقص الحاصل في العنصر البشري والمعرفي لبلديات الجهة، غير مشروع القانون الحالي يسمح بما وضعه من تصور للعمل الإداري على المستوى المحلي والجهوي ، بإعادة تلك التجربة الصعبة وإعاقة التطور الطبيعي للتنمية في الجهات ، ويُظهر الجدولين التاليين غياب المجلس الجهوي في إعداد التصورات والبرامج التنموية والإدارية بالبلديات وكذلك عن مراقبتها :
المجلس الجهوي والعملية التنموية في الجهة
المجلس الجهوي هو صنف من أصناف الجماعات العمومية المحلية وهو “يمارس الصلاحيات الذاتية التي تكتسي بعدا جهويا بحكم مجال تطبيقها” طبقا للفصل 18 من شروع مجلة الجماعات العمومية المحلية وتتمتع الجهة بصلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية (الفصل 288) مثل باقي الجماعات المحلية وهو يختص “مبدئيا بتصريف الشؤون الجهوية والبت فيها (فصل 322) وهو يتولى “بوصفه مكلفا من طرف الدولة” بتنفيذ القوانين والتراتيب الجاري بها العمل بالجهة والقيام بكل الوظائف التي يسندها القانون لرئيس الجهة” (الفصل 288) وهو مدعو بمقتضى الفصول 110و 160 و 164 لإعداد المخططات التنموية وأمثلة التهيئة العمرانية وعرضها على أمانة المال الجهوي ثم يتم تقديمها إلى المصالح المركزية قصد المصادقة عليها وفتح الإعتمادات المخصصة لتنفيذ البرامج، وهو يخضع للسلطة الرقابية لأمانة المال ومؤسسة الوالي بالجهة كما يخضع للسلطة الرقابة للمجلس الأعلى للجماعات والهيئة العليا للمالية المحلية والإدارة المركزية.
وتنبني علاقة المجلس الجهوي كجماعة عمومية محلية مع بلديات الجهة على قاعدة التعاون والتنسيق المشترك على معنى الفصول 269 و 272 و 274 التي تتيح للجماعات المحلية البحث عن سبل للتعاون البيني الإداري حيث أقر قانون الجماعات في الفصل عدد 270 ” إحداث لجنة جهوية للتعاون بين البلديات” تنظر في سبل وآليات التعاون والتنسيق ولكنها لا تملك سلطة تقريرية علاوة على أنها آلية تعمل ضمن المجلس الجهوي الذي لا يملك سلطة الإشراف على باقي الجماعات المحلية.
وما نستخلصه هو أن مشروع قانون الجماعات المحلية قد سَوّى بين المجلس الجهوي والمجالس البلدية, واقتصر العلاقة بينهما على البحث في سبل التعاون والتنسيق الإداري, حيث افتقدت كل الفصول المتعلقة بالتعاون والتنسيق بين الجماعات المحلية للصبغة الإلزامية وتم الاكتفاء بإحداث لجنة جهوية للتعاون بين البلديات وهي لجنة غير فاعلة حيث أنها لا تتمتع بالصبغة التقريرية (الفصل 304) غير أن مجلس الجهة لا يمتلك سلطة الإشراف على باقي المجالس البلدية (الفصل 10 و 11 و 17) وبالتالي فإن عمل هذه اللجنة لن يتجاوز سقف العلم بالشيء أو التحادث فيه بالنسبة لباقي الجماعات.
وحيث أن حضور رؤساء المجالس البلدية قد تراجع من صفة عضو قار له حق التصويت بالمجلس الجهوي إلى صفة ملاحظ (الفصل 310) كما دعا مشروع القانون ممثلي المجلس الجهوي إلى حضور جلسات المجالس البلدية بصفة ملاحظ (الفصل 208), ليتم بذلك تقطيع أوصال العلاقة المؤسساتية بين المجلس الجهوي وباقي المجالس البلدية والتي كان يُفترض أن تتعزز من خلال بناء مُؤسَسي ديمقراطي يرتكز على قوانين مُلزمة للجميع من أجل الحفاظ على وحدة التصور والإنجاز وتجنب الارتجال والمبادرات الفردية وتنازع المصالح في ظل مناخ ديمقراطي مفتوح سيؤدي حتما إلى تصادم الجماعات والتجائها إلى مؤسسات التحكيم والقضاء الإداري وتعطيل نسق التنمية وخلق مناخ من التوتر الاجتماعي قد يحكم على تجربة التنظيم اللامركزي بالانتكاسة وظهور الجهة بمظهر العاجز على إدارة الشأن الجهوي.
كما نص مشروع قانون الجماعات المحلية ضمن الفصل عدد 322 على تخصص المجلس الجهوي بالتصرف في الشؤون الجهوية والبت فيها والسؤال هو ، ما هو التحديد الدقيق للشأن أو المرفق الجهوي في ظل إشراف البلديات على معدل 75℅ من التراب التونسي طبقا للتنظيم الترابي الجديد, إذ ما هو الجهوي في المجال التربوي والتعليم العالي والصحة العمومية، وفي قطاع الفلاحة والصناعة وفي مجال الطرقات والشؤون الاجتماعية, فهل سيتم اعتماد التقسيم الترابي أو تصنيف المشاريع حسب طبيعة استخدامها ،وما تأثير ذلك على طبيعة عمل الإدارة الجهوية وتركيبتها وتوزيع مجالات التدخل بين مختلف الوزارات وعلاقاتها بالمجالس البلدية والمجلس الجهوي, في ظل تعميم النظام البلدي (انظر الفصول 289 و 291 و 322 و 328).
كما خص الفصل 323 رئيس المجلس الجهوي بسلطة الإشراف على الإدارة الجهوية, ولكنه لم يُحدد بالضبط المعنى الدقيق لمصطلح الإشراف .
وبالعودة إلى علاقة المجلس الجهوي بالبلديات والجهة عموما فقصد نص الفصل 289 على أن المجلس الجهوي يتولى تسيير مختلف الخدمات والتجهيزات العمومية ومسالك التوزيع والبيئة والثقافة والرياضة والشباب والمسنين والمؤسسات والجمعيات المنتصبة بها وخاصة وضع مخططات لدفع التنمية بالجهة, وهنا نتسائل عن مَعنى المصطلح “لدفع التنمية”, هل هي مخططات جهوية فعلية أم أفكار وتصورات مرجعية لمساعدة الجهة بكل مكوناتها على إعداد برامجها التنموية،وكيف له أن يفرضها على باقي الجماعات المحلية في ضل فقدانه لسلطة الإشراف عليها، وإذا افترضنا (لأننا لم نجد إجابة واضحة ضمن نصوص المجلة) أن الفصل 289 يتحدث عن مخططات جهوية وبلدية للتنمية فإن قانون الجماعات المحلية لم يضع آليات تنفيذية بين مجالس البلديات والمجلس الجهوي لإعداد عمليات التشخيص والتصور .
ويبدو أن واضعي مشروع قانون الجماعات العمومية المحلية واعون بمواطن الضعف ضمن هذا القانون ، لذلك سعوا إلى وضع جملة من الفصول التي تفتح الباب أمام أكثر من قراءة ولكنها تهدف في مجملها إلى السماح لجماعات أخرى أو مؤسسات لا محورية بالحلول محل البلديات التي تعجز عن أداء مهما، وهو ما قد يفضي بالنهاية إلى الانقلاب التام عن مضمون المجلة, حيث ذهب واضعوا القانون قبل تحديد الصلاحيات والمهام ومجالات التدخل لكل صنف من أصناف الجماعات المحلية إلى القول الفصل عدد 11 على أنه “يمكن لجماعة محلية أن تُكلف جماعة أخرى… ممارسة اختصاصات مُحددة تعود لها أصلا، على أن تتم ممارسة الاختصاصات المعنية باسم الجماعة المحلية التي أسندت التكليف ” وإذا ما سلمنا أن أقدر الجماعات على مساعدة جماعة عمومية محلية أخرى هو المجلس الجهوي فإن ذلك يعني أن هذا الفصل يفتح الباب أمام عودة المجلس الجهوي ليحل محل البلدية دون أن تتم الإشارة له بصريح النص.
كما ينص الفصل عدد 14 على أنه ” يتم توزيع الصلاحيات المشتركة والمنقولة من السلطة المركزية بين مختلف أصناف الجماعات على أساس مبدأ التفريع وتعود لكل صنف من الجماعات المحلية الصلاحيات التي تكون هي الأجدر بممارستها بحكم قربها من المتساكنين وقدرتها على الأداء الأفضل للمصالح المحلية”, ونلفت الانتباه هنا, أن هذا الفصل يفتح الباب أمام كل التأويلات المُمكنة ويمكنه أن يقلب كل مشروع قانون الجماعات المحلية رأسا على عقب, إذ ما معنى”الأجدر”, و كيف يمكن أن يُحدد مفهوم الجدارة ومن يحدده وطبقا لأية معايير كمية أو نوعية، هل هو المجلس البلدي الذي يحدد هذا المعيار ،أم المجلس الإقليمي أم المجلس الأعلى للجماعات أم الإدارة المركزية, وطبقا لأية مقاييس , فإذا ما اعتبرنا عامل القرب معيارا لجدارة التدخل، يمكن أن ينتفي معه عامل الخبرة والقدرة المادية والعكس صحيح, إضافة إلى أن آليات تحديد القدرة والجدارة غير مُحددة بمقتضى هذا القانون.
مؤسسة الوالي والجماعات المحلية:
طبقا لمشروع قانون الجمعيات المحلية الولاية هي مؤسسة لا محورية، تشرف إداريا على عمل مجالس البلديات والمجالس الجهوية، إذ يتولى الوالي المختص ترابيا دعوة رئيس الجماعة المحلية إلى الدعوة للانعقاد مجلسه للتداول في مشروع الميزانية في أجل أقصاه يوم 15 ديسمبر من كل سنة طبقا للفصل عدد 162 وله أن يعترض على القرارات البلدية أمام المحكمة الإدارية الابتدائية المختصة كما يمكنه خلال عشرة أيام من تاريخ إعلامه بميزانية الجماعة المحلية الاعتراض عليها لدى غرفة دائرة المحاسبات المختصة ترابيا “من أجل عدم توازن الميزانية أو عدم إدراج نفقات وجوبية أو رصد مبالغ غير كافية لذات النفقات ” طبقا للفصل 288 و يمكن للوالي “أن يباشر صلاحيات رئيس الجماعة المحلية إذا امتنع أو أهمل القيام بعمل من الأعمال التي يسندها لها القانون … وفي صورة تقاعس رئيس الجهة الفادح أو عجزه على إتمام المهام المذكورة … ووجود خطر داهم” على معنى الفصل 330 .
ودون الخوض في الصعوبة التقنية للفصل بين إدارتي الوالي رئيس المجلس الحالية و مؤسسة الوالي اللامحورية التي سيتم إحداثها، إداريا و بشريا، وهي فرضية لو سلمنا بضرورة وجودها تتطلب سنوات من الإعداد الترتيبي والقانوني واللوجستي لتحويل الإدارة الحالية إلى إدارتين مختلفتين نوعيا ( مؤسسة لا محورية وأخرى لا مركزية ) فإننا نتساءل عن مدى قدرة مؤسسة الوالي اللامحورية على فرض قانونية الأعمال المتعلقة بإعداد الميزانيات أو بتنفيذ الإجراءات الترتيبية، على المجالس المنتخبة و كيف لها أن تفـرض سلطتها التنفيذية في حالة قيامها بعزل رئيس مجلس بلدي أو مجلس جهوي منتخب في ظل مناخ سياسي مشبع بالتنوع الحزبي ،وبالتالي فإننا نرى أن وجود مؤسسة الوالي بما أُسند لها من صلاحيات هي قفز على الواقع الحالي للدولة وإلغاء لمؤسسة ترسخت في الوعي الجمعي للتونسيين على أنها هي الجهة التي يمكن أن تقدم للمواطن وللمؤسسات الجهوية الحلول والأجوبة (على ضعفها الحالي) ألا وهي مؤسسة الوالي رئيس المجلس الجهوي.
لقد تعود المواطن على الالتجاء إلى الوالي حتى في ما يتعلق بمشاكله العائلية والشخصية ،و لازال الم يـرى في مؤسسة الوالى امتدادا لمؤسسة شيخ العشيرة وهو يحضى عندهم بنفس الهيبة والاحترام وسيتواصل هذا السلوك إلى حين ترسيخ ثقافة المؤسسات ،وإلى ذلك الحين سيتوجه المواطنون إلى الوالي لطرح مشاكلهم لمجرد حمله لهذه التسمية ،وستنقضي فترة طويلة قبل أن يعي السكان أن الوالي لم يعد له نفس الدور الذي أمنه لمدة ستون سنة ونرى من خلال الجدول الموالي آليات الرقابة على ميزانيات المجالس المحلية وعملها الإداري وغياب دور المجلس الجهوي عن رقابة العمل التنموي بالجهة .
الجماعات المحلية والرقابة اللاحقة .
لم يحدث بالرجوع لتجربة الإدارة التونسية وتقارير دائرة المحاسبات وكذلك بالرجوع إلى التقارير المقارنة, أن تم التشكيك أو التساؤل حول جدوى مؤسسة مراقبة المصاريف العمومية عند تأمينها للرقابة القبلية ولا يمكن اتهام هذه المؤسسة بالرجوع لنفس المراجع المذكورة أعلاه أو بالاعتماد على تدقيق موضوعي , بأن مؤسسة مراقبة المصاريف كانت سببا من أسباب تعطيل المشاريع الجهوية أو الوطنية, بينما تعني الرقابة البعدية أو اللاحقة ، قيام مراقبة المصاريف العمومية بالتثبت من قانونية الإجراءات المتعلقة بالنفقة العمومية المُنجزة بعد انتهاء الأشغال، وهو ما سيمكن المتصرف العمومي أي رؤساء الجماعات المحلية من ربح الكثير من الوقت وتسريع نسق إنجاز المشاريع المحلية والجهوية, ولكن السؤال هو كيف للجماعات المحلية الممتلئة بأعوان يفتقدون الاختصاص والتكوين اللازم ( وهم في أغلبهم منتدبون من عمال الحظائر ) أن تضمن سلامة إجراء الصفقات والاستشارات العمومية وكم يلزم من الوقت لتكوين هؤلاء أو لتعويضهم بعناصر أكثر كفاءة تضمن قانونية النفقة في انتظار الرقابة اللاحقة, وما هو الفرق عندئذ بين مراقبة المصاريف العمومية ودائرة المحاسبات من حيث شكل التدخل (اللاحق), وكيف يمكن منع مجلس بلدي أو جهوي انتخبت أعضاءه لتحقيق أهداف ملموسة فوجدوا أنفسهم مدفوعين (سعيا للنجاح) لغض النظر عن عدم قانونية الإجراءات والآجال, لقد علمتنا التجارب السابقة أن رؤساء البلديات يعمدون إلى مغالطة اللجان الجهوية للصفقات بتقديم شهادات مالية صادرة عن القباض البلديين تفيد بتوفر اعتمادات متأتية من الجباية المحلية أو غيرها, في حين أنها في الحقيقة مجرد تقديرات ؟
وكيف يمكن لمراقبة المصاريف العمومية التي ألـزمها الفصل 154 من مجلة الجماعات المحلية بالرقابة اللاحقة أن تحول دون الأخطاء التي ستحصل عند إنجاز المشاريع والبرامج المنجزة وكيف يمكن للهيئة العليا للمالية المحلية التي أحدثها الفصل عدد 54 أن تصلح وضع المالية المحلية بعد أن تصبح أخطاء التصرف أمرا واقعا, إن هذا الإجراء ليس مرفوضا لذاته ولكنه يفترض توفر عدة شروط هامة غير متوفرة ولا نتوقع حصولها في المدى المتوسط مثل توفر الموارد البشرية والخبرة الكافية بالتصرف المالي والإداري لدى الجماعات المحلية والثقافة الضرورية لدى المجالس البلدية والجهوية التي تحترم مبدأ علوية القانون والشفافية والإلمام بمقتضيات التصرف المالي والإداري.
المجتمع المدني: أيّ موقع و أيّ دور ؟
إن أهم ما تعنيه اللامركزية هو تشـريك كل الفاعلين المحليين و الجهويين في صنع الفعل و التصوّر و الرأي وهو ما لن يتسنى بالاقتصار على فئة أو فريق أنتجته انتخابات محلية أو جهوية بل بتوسيع مجال المشاركة لمنضمات و جمعيات المجتمع المدني و قد نصّ الفصين عدد 208 و 310 من مشروع قانون الجماعات المحلية على وجوب تخصيص مكان لمنضمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام خلال جلسات المجلس ابلدية و تخصيص مكان لممثلي النقابات العمالية و نقابات الأعراف الأكثر تمثيلا بالجهة كما أكد الفصل عدد 28 من المجلة على ضرورة تطبيق مبدأ المشاركة في إعداد المخططات التنموية و تناول كل المسائل التي تخص الشأن البلدي مع المتساكنين و ضرورة الاستماع إليهم وتسجيل مقترحاتهم على معنى الفصل 33.
ولكن ما لا نفهمه هو كيف يمكن أن يكون للمجتمع المدني أو من يمثلونه من تأثير فعلي إذا اقتصر حضورهم ضمن جلسات دورات المجالس البلدية والجهوية على الاكتفاء بدور الملاحظ, لقد أظهرت هذه المؤسسات قدرا من النضج والقدرة على إدارة الأزمات وتبني مواقف عقلانية في السنوات القليلة السابقة.
لذلك نتساءل لماذا تم تحييد دورها وخاصة الكبرى منها والأكثر تمثيلية في بلادنا, خاصة وأنها منظمات تعتمد الانتخاب الديمقراطي الحر لانتخاب قياداتها وهياكلها وتعبر عن مصالح وهواجس قطاعات واسعة وفاعلة.