تميزت العشرية 2011-2021 بجملة من التحولات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية العنيفة وبردة فعل ثأرية شعبية ضد المنظومة الاقتصادية والسياسية التي هيمنت على اقتصاده البلاد ومسار الأحداث فيه وهو ما أنتج إضرابات ووقفات احتجاج تكاد لا تنتهي إلى غاية 2021.
وقد أدت حالة الفوضى والاضطرابات الاجتماعية و السياسية و الأمنية إلى اهتزاز الوضع الاقتصادي و الاجتماعي وتفكك النسيج الصناعي و الفلاحي و السياحي وتراجع الاستثمار الاقتصادي الخاص الوطني و الأجنبي، وتحول كل المؤشرات الاقتصادية الوطنية إلى مؤشرات مفزعة عمقت حالة التفاوت الجهوي ونسب البطالة وبروز الاقتصاد الموازي و الاحتكار.
وقد تراجعت نسب النمو وعرف الاقتصادي انكماشا هاما سنة 2020 بلغ 8.8% كما سجل عجز الميزانية نسب غير مسبوقة في بلادنا إذا تم تسجيل نسبة عجز جملية قدرها 41,8% كما تم تسجيل تراجع مقلق في الميزان التجاري حيث بلغ 1439,5- م,د و نسبة تضخم قدرت ب 6,3% سنة 2021 ونسبة نمو قدرها البنك الدولي ب 3,2% وهي نسبة ضعيفة جدا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبة الانكماش الاقتصادي وهي كلها مؤشرات تدل على التعثر الاقتصادي الناتج عن تراجع الإنتاج في القطاع الخاص وكذلك بسبب توقف الإنتاج تماما في قطاع النفط و الغاز و الفسفاط, كما سببت الاضطربات المتواصلة في القطاع العام و الوظيفة العمومية إلى تعميق الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية وهو ما أدى بالمحصلة إلى تضرر هيكلي للمنظومة الاقتصادية. وقد فاقمت الوضعية الوبائية للسنتين 2020/2021 تأزم الوضع الاقتصادي حيث تعطل القطاع السياحي بشكل شبه تام , أدى إلى تدهور الوضع المهني و الاقتصادي لحوالي 1,5 مليون عامل بصفة مباشرة أو غير مباشرة في قطاع السياحة .
وقد أنتج تأزم الاقتصاد في عمومه إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى 17,9% وتراجع القدرة الشرائية للتونسيين عموما .
وأمام ما أصبح عليه الوضع الاقتصادي للبلاد صار لزاما على الدولة إعادة التفكير في جملة من الخيارات الاقتصادية و المالية و الاجتماعية للرفع من نسق الإنتاج و التخفيض من نسبة البطالة و تحسين وتنويع مصادر الإنتاج و خلق الثروة و هو ما سيمكن من الترفيع في نسبة الناتج الوطني الخام و التخفيض من نسبة الدين العمومي و استرجاع ثقة المستثمرين و الصناديق الممولة.
و من أهم الإجراءات الواجب اتخاذها هو العمل على استقرار الوضع السياسي لما له من تأثير مباشر على المناخ الاجتماعي و الحد من حالات الانفلات الاجتماعي في قطاعات الإنتاج وفي الوظيفة العمومية، في إطار هدنة اجتماعية تقطع مع الإضرابات العشوائية و عمليات الاعتداء المتكررة على مؤسسات الإنتاج و المصالح الخدمية و الدفع في اتجاه استعادة قيمة العمل ثم العمل، وفي المدى المتوسط العمل على إصلاح الإدارة من خلال إنفاذ القانون أولا، وكذلك السعي إلى تبسيط الإجراءات الإدارية وتسريع نسق الخدمات في إطار لامركزية عقلانية تسمح للإدارة الجهوية باتخاذ القرارات في علاقة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي و بالاستثمار الخاص على ضوء ملفات تستجيب للمعايير الفنية و القانونية التي تقطع مع الإجراءات العشوائية .
وفي سبيل تشجيع الاستثمار الخاص، الوطني و الأجنبي لا بدّ من العمل على تطوير المؤسسة القضائية و ضمان كل شروط القضاء الناجز و هو ما يمثل ضمانة هامة بالنسبة للمستثمرين الذين يبحثون على ضمان حقوقهم و استمرارية عمل مؤسساتهم في ظروف عادية.
كما أنه أصبح لزاما على الدولة الدفع نحو تطوير وتحسين الخدمات البنكية و تشجيعها على أن تنخرط بشكل أكثر وضوحا في عمليات الاستثمار الاقتصادية وتسريع عمليات المعالجة للملفات و العمليات البنكية و التخلص من رداء التجارة و البيروقراطية القاتلة و القبول بمبدأ المخاطرة من أجل دفع الاستثمار الخاص .
و يتوجب في المدى المتوسط و البعيد التفكير في الترفيع من جاذبية الجهات وخاصة الفقيرة منها،علما و أن هذه الجهات تمتلك قدرة تنافسية عالية و لكنها مُعطلة بسبب تخلي الدولة عن الاستثمار في البنى التحتية و التشجيع الفعلي على الوجه نحو هذه المناطق .
وحيث أن جل الدراسات الاقتصادية في العالم تـتـفق حول شروط الترفيع في جاذبية البلدان من أجل جذب الاستثمار الصناعي و الفلاحي و السياحي و الخدماتي و المتمثلة أساسا في توفر نظام مالي متطور ونظام قضائي جازم و إدارة سريعة ومناخ اجتماعي و سياسي إيجابي و بنية تحتية متطورة ويد عاملة مؤهلة ووضع أمني مطمئن.
فإن هذا الخيار يعد حتمية اقتصادية و اجتماعية لا مفـر منها بالنسبة لبلادنا. خاصة و أن المستثمرين في تونس يشتكون من البطء الإداري بنسبة 75% ومن غياب الخدمات الرقمية بنسبة 55% وغياب اليد العاملة المؤهلة بنسبة 54% والتنسيق بين الإدارات بنسبة 96% كما أن المناخ السياسي و الاجتماعي و الوضع الأمني بالنسبة للمستثمرين مؤشرات سلبية وهو ما يؤكد على ضرورة الإسراع بالتصدي لهذه المعوقات من أجل جلب الاستثمار الذي يعد الإجابة العلمية و العملية الأهم للحد من ظاهرة البطالة أولا، وتقليص التفاوت الجهوي الذي كان سبابا مباشرا في انتفاضة سنة 2011. وإن المتأمل في نسب مساهمة الأقاليم في الإنتاج الوطني في أغلب القطاعات المنتجة و في الناتج الوطني الخام في العشرية الأخيرة يؤكد ضرورة عـقلنة التوجهات الاقتصادية الوطنية من أجل خلق اقتصاد متنوع الركائز قوي في تنوعه منسجم من حيث انتشاره الجغرافي انسجاما مع ما تزخر به البلاد من ثروات معدنية و غابية و فلاحية و بحرية متنوعة ومتكاملة ولنا في إقليم الشمال الغربي مثالا.
إقليم الشمال الغربي :الواقع والرهانات.
لقد حان الوقت إذا، للتفكير بجدية في القطع مع الخيارات التنموية الحالية التي ما فتئت تعمق الفوارق الجهوية وتقف عائقا أمام الاستثمار الخاص الذي أصبح يعاني من حالة التكدس الصناعية الحاصلة بالعاصمة و الساحل الشرقي بينما يحرم هذا الإستثمار مما يتوفر من طاقات وثروات طبيعية كبيرة و متنوعة الجهات الفقيرة.
ولعل استعراض بعض الأرقام و النسب الخاصة بمساهمة الأقاليم في عمليات الإنتاج وفي الناتج الوطني الخام تؤكد هذا التوجه المطلوب إذ تشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء و التي نشرت سنة 2021 إلى النتائج التالية :
الأقاليم | % الناتج الوطني الخام2016 | %الناتج الوطني الخام2016 |
إقليم تونس الكبرى | 6,8 % | 7,3% |
إقليم الشمال الشرقي | 26,1 % | 29,8% |
إقليم الشمال الغربي | 34,3% | 38,9% |
وإن المتأمل في الجدول يلاحظ ضعف نسبة مساهمة إقليم الشمال الغربي في الناتج الوطني الخام
رغم الإقرار من قبل كل الاقتصاد يبين بأن هذا الإقليم هو إقليم غني جدا من حيث توفر الثروات الطبيعية و تنوعها إذ ما عدى القطاع الفلاحي الذي يوفـر نسبة 19,5% من النتاج الوطني الفلاحي فإن باقي القطاعات المنتجة تكاد تكون غائبة كما يبينه الجدول التالي:
الفلاحة و الصيد البحري | صناعات معملية | صناعات تحويلية | نسيج | مواد استخراجية | مناجم | |
أقاليم الشمال الغربي | 19,5% | 3,5% | 4,3% | 1,4% | 1,9% | 3,3% |
أقاليم تونس الكبرى | 5,6% | 40,6% | 35% | 25,8% | 54,1% | 10% |
وتبين الأرقام بالجدول التناقضات الكبرى في خيارات الدولة الاقتصادية إذا بينما يساهم إقليم الشمال الغربي بحوالي 19.5% من النتاج الفلاحي فإن الصناعات التحولية للمواد الفلاحية تتركز في تونس الكبرى بنسبة 35% وليس في الشمال الغربي بما يعنيه ذلك من ضياع للوقت و الطاقة و تأثير سلبي على تنافسية منتجاتنا الفلاحية المصنعة كما تثبت دراسات الديوان الوطن للمناجم مدى ثراء إقليم الشمال الغربي من حيث توفر المواد الاستخراجية الجيدة في جانب هام منها بينما نلاحظ أن الصناعات الاستخراجية لا تتجاوز 1,9% من الإنتاج الوطني بينما تتجاوز هذه النسبة 54% في إقليم تونس الكبرى كما يمكن سحب هذه الملاحظة على قطاع المناجم و الصناعات المرتبطة به حيث لا تتجاوز نسبة مساهمة إقليم الشمال الغربي في هذا القطاع بنسبة 3,3% بينما تصل إلى 10% في تونس الكبرى كما يساهم إقليم تونس ب 40,6% في قطاع الصناعات المعملية و 25,8% في قطاع النسيج بينما لا تبلغ نسبة مساهمة الشمال الغربي 3,5% في قطاع الصناعات المعملية و 1,4% في قطاع النسيج.
هذه الإختلالات الاقتصادية الراهنة تدفعنا إلى إعادة النظر في خياراتنا الإستراتيجية في المجالات الاقتصادية و ضرورة التوجه نحو بناء فكري جديد و البحث عن المردودية المطلوبة بإعادة النظر في مجمل الخيارات الاقتصادية و القانونية و الإجرائية والتزام الدولة بمخططات ترابية و عمرانية تكفل تحول المدن (وخاصة الفقيرة) إلى مناطق جاذبة للاستثمار الوطني و الأجنبي مع العمل على ضمان شفافية المعلومة و قضاء ناجز وخدمات بنكية وإدارية متطورة .
ويتنزل موضوع هذه الدراسة ضمن هذا الإطار العام الاقتصادي و الاجتماعي حيث تقدم المستثمر بالدراسات الأولية لمكونات مشروعة المندمج إلى الإدارات المركزية و الجهوية المعنية, ورغم الصعوبات المذكورة آنفا فهو متمسك بإنجاز مشروع مندمج و ذو مردودية عالية ويوفر قيمة مضافة تكنولوجية ومالية و مواطـن شغل هامة من حيث عددها.
الإطار الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي للمشروع : ولاية باجة في الإقليم .
ولاية باجة تنتمي لإقليم الشمال الغربي التونسي (جندوبة – سليانة – الكاف – باجة ) الذي يمسح 16.565 كم ويبلغ عدد سكانه مليون و 227 ألف ساكن وهو يتميز بسهوله المعروفة بسهول مجردة ومساحة غابية هامة قدرها483،175 هك منها 200 ألف هك. تحتوي نباتات طبية وعطرية وساحل بحري طوله 51 كم ،ويعد الشمال الغربي منطقة فلاحية بامتياز ( معدل التشغيل بالقطاع الفلاحي بالإقليم يعادل 39 % ) وهو منطقة تتوفر على مخزون مائي هام بالنسبة للبلاد التونسية،كما يتميز بطابع سياحي (لا يزال بدائيا) بفضل توفر وتنوع الكساء الغابي و شساعته وتوفر العديد من المناطق الأثرية الهامة مثل بلاريجيا وشمتو ودقة إلى جانب ميئاة المواقع الأثرية بولاية الكاف وسليانة .
وتتوفر بالشمال الغربي مساحات صالحة للزراعة تقدر بـ :1.093 مليون هك.تستغل لزراعة الحبوب كنشاط أساسي إلى جانب والغراسات وزراعة الخضروات التي تساوي 50%من الإنتاج الوطني إلى جانب الزراعات العلفية،بينما لا يتم استغلال الثروات السمكية البحرية سوى بنسبة 10% .
ويحتوي هذا الإقليم كذلك على العديد من الثروات الباطنية مثل : الحجارة الكلسية والحجارة الطينية والحجارة الرملية والحجارة الجبسية إضافة إلى الرخام والمياه الجوفية الساخنة والمياه المعدنية.
ورغم موقعه (قريب نسبيا من العاصمة ومن القطر الجزائري) وتوفر العديد من الثروات الطبيعية فإن فائض القيمة من المنتج الإقليمي لم يحصل بسبب غياب الصناعات التحويلية الضامنة لحصول هذا الفائض ،إضافة إلى غياب الصناعات المعملية والنسيجية وهو ما أنتج تأخرا كبيرا عن العاصمة والساحل الشرقي ،حيث بقيت البنية التحتية كذلك متردية أو غائبة إلى جانب غياب الخدمات الصحية والتعليمية والخدمية الأخرى وهو ما جعل من هذا الإقليم منطقة منفرة ولها حاصل هجرة سلبي في العشرية الخيرة ( -34.8 ألف ساكن ).
المســـاحة | عدد السكان | عدد المعتمديات | البلديات | % نسبة الفقر | % البطالة | % الريف | % الحظر | % نسبة النمو السكاني |
16.565 كم2 / 10.2 % | 1226.7 | 42 | 53 | 28% | 30% | 62,9% | 37.1% | -0,1% |
كما أن الفضاء الحضري لم يتوسع (37.7% ) وحافظ على تشتته،مع غياب نواتات حضرية كبرى ومتطورة توفر الخدمات الفندقية والتعليمية والصحية علاوة على الفضاءات الترفيهية والمقاهي والمطاعم المتطورة والقادرة على تقديم خدمات ذات جودة لزائريها،علاوة على ضعف الخدمات البنكية والبريدية وباقي الخدمات الإدارية الضرورية لجلب المستثمرين وخلق مناخ ملائم لبروز استثمارات وطنية وأجنبية تساهم في تنويع القاعدة الاقتصادية وثرائها وتنهي مرحلة الاقتصادي ألآحادي