كنت كتبت منذ سنة 2016 عن ملامح التنظيم الإداري الجديد ، و تساءلت عن شكل التنظيم اللامركزي الذي نُريد ، و نبهت إلى خطورة الاعتماد على المفاهيم العامة كما تساءلت عن الفائدة من تعميم النظام البلدي ، ليس رغبة مني في تجاهل الريف الذي لازال يمثل إلى يومنا هذا حوالي 70 % (جغرافيا وديمغرافيا).وإنما لقناعتي أن البلديات القديمة و المحدثة لن تستطيع الاستجابة إلى حاجات الريف و المدينة معا ،و لو تمت مضاعفة ميزانياتها ، و إذ ما تم تحويل الإعتمادات الجهوية الخاصة بالمناطق الريفية إلى البلديات وهو ما سيحصل ،( الفصل 29 و143) فمن سيضمن حق سكان الريف و هم غير فاعلين ضمن المجالس البلدية وبالتالي فإن جل الاستثمارات ستُوجه لمعالجة المشاكل المتراكمة (بلديا)وهو ما سيتطلب زمنا طويلا قبل الالتفات إلى المناطق الريفية و و ها نحن الآن نرى مقدمات هذا المسار،إذ بعد سنة و نصف من تركيز المجالس البلدية نلاحظ غياب المناطق الريفية في كل البرامج الخاصة بالنظافة أو التعبيد أو الترصيف و الإنارة العمومية أو حتى تركيز حاويات للفوا ضل المنزلية.و إضافة إلى ما تقدم فإننا كنا نبهنا إلى الإخلالات الهيكلية التي ستجعل من فشل هذا المشروع ضرورة حتمية.
إذ نلاحظ اليوم أن هناك عشرات المجالس البلدية لم يعقدوا الدورات العادية (وهو إجراء قانوني ملزم ) لأنه هو الإطار القانوني الذي يشرع الإجراءات البلدية بكل أنواعها ونلاحظ كذلك أن برامج الاستثمار البلدي لسنة 2020 لم تخضع لمقتضيات القانون الأساسي عدد 29 المتعلق بتنظيم عمل الجماعات العمومية المحلية و القاضي بعرض برامج الاستثمار البلدي على السادة أمناء المال والولاة ( وهي إدارة لامحورية جديدة ،الفصل 107) عوضا عن المجالس الجهوية و الغريب أن السيد وزير الشؤون المحلية قد عمم منشورا ( منشور عدد 03بتاريخ 14 جوان 2018 ) يدعو فيه البلديات إلى عرض برامجهم على أمناء المال ، “عند الاقتضاء” وهو أغرب منشور تتلقاه الإدارة التونسية ،إذ ماذا يعني الوزير بهذه العبارة في حين أن صيغة الفصل 107 هي صيغة إلزامية ، كما أنه يطلب من المجالس الجهوية مرافقة البلديات في إعداد ميزانياتها وهو ما لم يتم طبعا ،نظرا لعملية الفصل الحادة التي تم تنفيذها بينهما، وبالطبع لم يتلقى اغلب أمناء المال البرامج الإستثمارية للبلديات.
كما نسجل إعادة إلحاق رؤساء البلديات بالنيابات الخصوصية للمجالس الجهوية كأعضاء قارون بعد أن تم فصلهم منذ ثلاثة سنوات حيث تحصلت البلديات على صلاحياتها و أصبحت مستقلة تماما عن المجالس الجهوية ولم يعد بإمكانهم أن يشاركوا في جلسات المجالس الحهوية بصفتهم أعضاء قارون و السبب في رأيي من إعادة ضم المجالس البلدية إلى المجالس الجهوية هو أنه لا يمكن تقنيا إعداد المخطط الخماسي للتنمية الذي يشمل بالضرورة المشاريع البلدية و الجهوية و الوطنية إذا لم تكن البلديات ممثلة بالمجلس الجهوي و لها حق التصويت داخل المجلس على المشاريع المقترحة، لذلك دعا المنشور عدد 854 بتاريخ 01 أكتوبر 2019 إلى إلحاق البلديات بالمجالس الجهوية من جديد ،وهو إجراء مؤقت لإنقاض عملية إعداد المخطط التنموي الخماسي الجديد ،الذي ينطلق في نهاية 2020 والتفسير الثاني هو تمسك عدة مجالس بلدية بصلاحياتها الجديدة والاستقلال عن المجالس الجهوية و عندما لم تتمكن من التصدي للمشكلات اليومية حتى البسيطة منها عادت لطلب مساعدة الولاة الذين فقدوا بشكل فعلي صلاحية التدخل والتحكيم بين البلديات وكذلك المواطنين و السؤال هو ماذا أنتم فاعلون في المستقبل حين تستقل البلديات بشكل فعلي عن المجالس الجهوية و من سيُعد المخططات الخماسية إذا كانت كل هذه المجالس منفصلة عن بعضها ولا رابط قانوني ،إلزامي،يفرض وحدة أو تجانس التصورات والبرامج الجهوية والوطنية، وهو ما يدفعنا كذلك لطرح الأسئلة التالية:
- ما علاقة المخطط التنموي البلدي ( يُعد حسب القانون كل 3 سنوات ) بالمخططات التنموية الجهوية الخماسية وما هي آليات الربط بينهما ؟
- ما هي علاقة البرامج التنموية البلدية ببعضها وهل يمكن الحديث عن رؤية لتنمية جهوية وإقليمية متكاملة في ظل التنظيم الإداري الجديد خاصة وأن كل جماعة محلية تختص بحرية التدبير ضمن مجالها الترابي و لا تخضع لأية صبغة إلزامية في التعامل مع باقي بلديات الجهة ( الفصل عدد 04 من القانون عدد29)؟
- ما هي الآليات القانونية التي تمكن السلطة أو المؤسسات اللامحورية من إعطاء قراراتها أو اعتراضاتها على القرارات البلدية، صبغة إلزامية حيث هناك خلل في إعطاء سلطة لا محورية صلاحية المتابعة أو الاعتراض على قرارات مجالس منتخبة إذ يمكن للأخيرة وفي ظل المناخ الديمقراطي الحالي أن تتمرد على هذه القرارات أو الاعتراضات؟
- هل يملك السيد أمين المال الخبرة والاختصاص للنظر في البرامج التنموية المحلية قبل المصادقة عليها وعدم الاقتصار على النظر في الموازنات المالية الصرفة( كانت البرامج التنموية البلدية تُعد بشكل فعلي بين مصالح البلدية والمجلس الجهوي الذي كان يُجند المصالح الفنية الجهوية لتقديم الخبرة expertise والمساعدة لفائدة البلديات؟
- هل تملك البلديات القدرة والخبرة البشرية لإدارة الحوار مع المصالح المركزية للبتّ في برامجها التنموية في ظل غياب مرجعية جهوية اكتسبت هذه الخبرة على مدى السنين السابقة (حاليا هناك قطع تام بمقتضى القانون الجديد بين المصالح الفنية للمجلس الجهوي والإدارات الجهوية والمجالس البلدية )؟
- كيف يمكن التوفيق في إعداد أمثلة تهيئة عمرانية محلية متناسقة مع السياسات العامة والجهوية والإقليمية في ظل إنجاز كل جماعة لمخططها العمراني بشكل منفرد وفي ظل ضعف الموارد البشرية والخبرة ،إضافة إلى أن دور المجالس الجهوية و الإقليمية التي ينتظر بعثها ويفترض فيها أن تساعد البلديات على تمرير الأمثلة العمرانية لها دور استشاريا غير مُلزم بالنسبة للسلطة المركزية ( الفصل عدد354 )؟
- كيف نتصور دور المجالس البلدية وخاصة الفقيرة والجديدة منها، خلال العشرية القادمة في ظل شح موارد الدولة (رغم الحديث عن التمييز الإيجابي وعن آليات التعديل للحد من الفوارق الجهوية ضمن القانون الحالي) وكذلك في ظل ضعف خبرتها ومواردها البشرية وفقدانها دعم المصالح الفنية للمجالس الجهوية ( لأسباب قانونية تتمثل في سكوت القانون عن طبيعة هذه العلاقة ،إضافة للبعد السوسيولوجي للإدارة التي تتمسك بالعلاقات القديمة مع السلطة الجهوية) ؟
- ما هو مآل آليات التنسيق والتعاون بين البلديات في ظل ربطها بالخيارات الإرادية للجماعات المحلية ( ليست هناك أي صلة إلزامية لعملية التنسيق والتعاون بين بلديات الجهة الواحدة)؟
- كيف يمكن للبلديات ذات الصبغة الفلاحية أن تنمي مواردها الذاتية (وجوبية تتطور الموارد الذاتية حسب النص فصل 131 )، أي الجبائية أساسا في ظل انعدام الاستثمار الخاص بها ( نزل – مصانع – فضاءات تجارية ….) وهل ستضمن الدولة تمكين هذه البلديات من البُنى التحتية والتجهيزات الضرورية وتأمين عمليات النظافة والتنوير العمومي والترصيف … بغض النظر عن نسبة تحصيلها الجبائي، وهو مؤشر من المؤشرات المُعتمدة في تحديد مساهمة الدولة في تمويل الجماعات من المال المشترك ، خاصة وأن الفصول 131 و 132 يلزمان الجماعات بترفيع مواردها الذاتية وعدم التعويل مستقبلا على الموارد الوطنية إلا بنسب قليلة ؟، ألا يمكن أن تخلق هذه الخيارات فوارق جديدة وهامة بين البلديات الغنية وباقي البلديات في ظل غياب المجلس الجهوي الذي كان يلعب دورا تعديليا في الجهة بين الريف والمدينة على الأقل ؟
فالمجلس البلدي هو صنف من أصناف الجماعات العمومية المحلية يختص “مبدئيا بتصريف الشؤون البلدية والبت فيها (الفصل 14-15-16-) وهو يتولى “بوصفه مكلفا من طرف الدولة” بتنفيذ القوانين والتراتيب الجاري بها العمل بالبلدية والقيام بكل الوظائف التي يسندها القانون لرئيسه” (الفصل 17- 18) وهو مدعو بمقتضى الفصول 29 و 114لإعداد المخططات التنموية وأمثلة التهيئة العمرانية وعرضها على أمانة المال الجهوي ووالي الجهة الذان يحق لهما طلب توضيحات، ثم يتم تقديمها إلى المصالح المركزية قصد المصادقة عليها وفتح الإعتمادات المخصصة لتنفيذ البرامج، وهو يخضع للسلطة الرقابية لأمانة المال ومؤسسة الوالي (جديد ) بالجهة.
و نحن لا نرى كيف يمكن للبلديات الحالية بصفتها الجديدة أن تُشرف على المشاريع القطاعية الجهوية( تصّورا وتنفيذا و متابعة) في ظل غياب العنصر البشري وعدم توفر الخبرة الكافية للمصالح الفنية بالبلديات للتعامل مع هذا الصنف من المشاريع (أو على الأقل لجزء هام منه) والذي كانت تشرف على إنجازه مصالح المجلس الجهوي و راكمت في شأنه خبرات بشرية هامة لا يمكن في اللحظة الراهنة الاستغناء عنها رغم النقائص المسجلة في شأنها (أنضر الفصل عدد 16 من المجلة).
كما أننا نعتقد أن المجالس البلدية لا يمكن لها أن تصمد في وجه مظاهر التوتر الاجتماعي الذي سَينتج حتما بسبب مُطالبة سكان التجمعات السكانية الريفية بحقهم في الخدمات البلدية كما ينص عليه الفصل 200 من المجلة,إذ في انتظار أن تتعزز الموارد الذاتية للجماعات المحلية كما ينص على ذلك الفصل عدد 114 من المجلة (و هو أمر شبه مستحيل بالنسبة للبلديات ذات الطابع لفلاحي) وكذلك تطوير الموارد المُحالة من الدولة (الفصل 114 من المجلة) لإنجاز المرافق العمومية والبني التحتية, فإن طبيعة المرحلة ستفرض على البلديات صراعا حادا مع سكانها بحكم عجزها المتوقع على تلبية حاجاتهم الشرعية بحكم القانون.
نحن لم نأتي على كل المشاكل التي طرحها الواقع المادي الجديد منذ انتخابات 2018 لكثرتها و لكننا سنكتفي بالتذكير بأهمية الإنتباه إلى بالاخلالات التي تضمنها القانون الأساسي عدد 29 والتي كنا نبهنا إليها قبل المصادقة عليه ومن أهمها انفصال البلديات عن بعضها وضياع المشاريع المشتركة في المجالات الصناعية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها من المشاريع دون الحديث عن العجز في الأداء الناتج عن قلة الخبرة إضافة إلى توسيع المجال الترابي للبلديات وتوسعة الصلاحيات بشكل هام دون مصاحبته بالقدرات البشرية المدربة .
و سنحاول بيان مواطن العجز في القانون الأساسي عدد 29 في الأوراق اللاحقة في ما يتعلق بمفهوم الجهة وموقعها وصلاحياتها إلى جانب المؤسسات اللامحورية والتي تم أو سيتم بعثها طبقا لما نص عليه القانون وتقديم تصور مخالف ويؤسس لرؤية أخرى تُعطي للجهة مكانا أكثر فعالية وقدرة على تجميع القوى المدنية والسياسية والإدارية وتدريبهم على عمليات التشخيص للواقع الجهوي وتقديم تصورات وبرامج موضوعية وجامعة وتمكن من خلق نخب جهوية متمرسة وجاهزة ،من خلال الفهم والقدرة على الدفاع على مصالحها بشكل جماعي.