Skip to main content

تعددت المفاهيم المرتبطة بالتنظيمات المدنية في القرن الأخير إذ صرنا نستمع إلى مصطلحات مثل  الجمعيات و الجمعيات الأهلية   و المنظمات الغير حكومية والمنظمات الدولية والمؤسسات (FONDATIONS)… تقول الباحثة مرفت شماوي في كتابها “حرية تكوين الجمعيات في البلدان العربية ،دليل إرشادي” أن مجلس حقوق الإنسان يؤكد “على أنه لكل فرد الحق في حرية التجمع السلمي وفي تكوين جمعيات …والتمتع بكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية …والمشاركة في الأعمال الأدبية والفنية ” كما يؤكد المجلس على أنه”من حق المجتمع المدني الحصول على التمويل وغيره من الموارد من المصادر المحلية والدولية وهذا جزء لا يتجزأ من حرية تكوين الجمعيات ” والسؤال هل أن تعدد المصطلحات يعني اختلافا جوهريا في الأهداف والوظائف والأشكال أم لا ، وما هي التحولات الاجتماعية التي رافقت هذه الظواهر،وما علاقة ما يحدث في تونس  من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وطنية وإقليمية ودولية بالتطور السريع والمكثف للمنظمات والجمعيات  ؟

لمحة تاريخية عن المجتمع المدني في تونس والدول العربية             

ظهرت المنظمات الغير حكومية ((ONG بشكل رسمي ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1945 حيث يؤكد الفصل 71 من ميثاق المجلس اللإقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة أنه يمكن اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لاستشارة المنظمات الغير حكومية الدولية  (ong) والوطنية  حسب اختصاصها، وقد سمح هذا القانون للمنظمات الغير حكومية بلعب دور مؤثر في أروقة الأمم المتحدة وخارجها كما يؤكده الباحث الفرنسي  decaux Emmanuel الذي يدرس بجامعة باريس2. 

ونود أن نشير إلى أن كل الأشكال التنظيمية التي ظهرت كانت نتيجة لتفاعل الإنسان مع واقعه حيث كانت الجمعيات أسلوبا محليا في فترة متقدمة في أوروبا لتنظيم التجارة  كما كانت الإدارة البيروقراطية  شكلا آخر متقدما للتنظيم البشري ابتُـكر  للتحكم في نتائج الثورة الصناعية والاقتصادية عندهم، و كانت الأحزاب السياسية استجابة أخرى لحاجة الناس للتعبير عن آرائهم إثر إنجاز ثوراتهم السياسية على الملكية والإقطاع،أما بالنسبة للبلدان العربية فقد عرفت  نهاية القرن التاسع عشر  بروز عديد الجمعيات التي اهتمت خاصة بالجانب الصحي والتعليمي ،إذ ساهمت في بناء الوحدات الصحية الريفية والمستشفيات والمدارس التعليمية وتوفير حصص تعليمية تكميلية وفي مجال التكوين المهني، إضافة إلى الاهتمام بالأيتام وكبار السن والمعاقين والفقراء …و لا يزال العديد منها يواصل هذا العمل حيث تمثل نسبة هذه الجمعيات كما أوردت الباحثة سارة بن نفيسة، 30 إلى 50 % من مجمل الجمعيات بالوطن العربي (مثل مصر ،لبنان ،سورية، الأردن خاصة )، وتقول أن أغلب الجمعيات بالمشرق العربي تعتمد أساسا على البعد الديني أو القبلي بينما تقل هذه النزعة في بلدان المغرب العربي ،ففي مصر مثلا ،تهيمن الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني منذ السبعينات على الفضاءات الريفية والحضرية حيث تضم “الجمعية الشرعية للسنة المحمدية” التي أسست سنة 1913 م.، ثلاث مائة و47 فرع و أربع مائة و98 مكتب وستة آلاف مسجد ،وهناك عديد الجمعيات الأخرى في نفس المجال في مصر وفي لبنان وسوريا حيث توجد جمعية الطائفة الكاتوليكية بحلب إلى جانب جمعيات إسلامية وكاتوليكية تأسست منذ السنوات الخمسين في البلدان المذكورة وتختص لبنان بوجود 18 طائفة لكل واحدة منها شبكة الجمعيات الخيرية الخاصة بها.

وقد عرفت كل البلدان العربية موجة جديدة من الجمعيات المهتمة مجالات جديدة تعلقت أساسا بالحقوق والحريات منذ السنوات التسعين وكانت (ولا تزال ) خصوصية هذه “الجمعيات” أنها فروع لمنظمات عالمية مثل رابطات حقوق الإنسان و “هيومن رايتس وتش”   و “أمنستي” و المنظمة العالمية ضد التعذيب ومنظمة أوكسفام” الأنقليزية ضد الجوع و منظمة صحافيين بلا حدود ومنظمة الشفافية الدولية والصليب الأحمر والمنظمة العالمية للدفاع عن البيئة ..إضافة إلى ظهور تيار جديد يضم العديد من الجمعيات التي تتبنى نظرية الجندرة،حيث تقول الباحثة فاطمة الزهراء البرينسي أن الوكالات الدولية  سعت إلى تحفيز الدول العربية على فتح المجال أمام المنظمات والجمعيات لكي تعمل في إطار ما تحدثنا عنه من حرية التجمع والتعبير عن الرأي وتكوين الجمعيات والأحزاب،حيث وصل عدد المنظمات إلى 44 ألف منظمة مسجلة بالمغرب و 38 ألف منظمة في مصر و22 ألف بتونس و10 آلاف بالعراق ،بينما لا تزال أعداد هذه المنظمات ضعيفة بمنطقة الخليج العربي بسبب طبيعة المؤسسات الأوتوقراطية التي تسيطر على المنظومة السياسية والاقتصادية .

وتضيف “أن المنظمات غير الحكومية تعتمد بنسبة كبيرة على التمويل الآتي من الوكالات الدولية للأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي ..عبر الصناديق والمؤسسات التي تُخصصها للمجال الإنساني والتنموي …لكن هذه الجهات المانحة لا تعطي تمويلها بالسهولة التي يتخيلها البعض ..حيث تضع الجهات المانحة شروطا صارمة تشمل كل التفاصيل سواء تعلقت بنشاطات الجهة المُستقبلة للتمويل أو بنوعية هذه النشاطات وميادينها.”

المجتمع المدني في الغرب

إن الفرد في المجتمعات المتقدمة يرى في العمل المدني حق وواجب وهو شعور طبيعي في مجتمعات تستبطن شعور التملك للأرض والانتماء للمجموعة التي تعمّرها، وهو ما يفسر أن عدد الجمعيات في الولايات المتحدة بلغ 1.14 مليون جمعية في بداية السنوات الألفين وهي تساهم من خلال عملها بـ8.5 % الناتج الوطني الخام وتشغل 9.3 % من اليد العاملة النشيطة ويساهم الأمريكيون        بـ 250 مليون دولار سنويا في دعم نشاط الجمعيات ،علما أن هذه المساهمات تقتطع من المبلغ الجملي الجبائي للمواطن،و تخصص  36 % من هذه الهبات  للأنشطة الخيرية الكنسية و 13 %.تخصص للتعليم و8.6 % للصحة و 5.3 % للثقافة وتدير شؤون هذه الجمعيات الخيرية مجالس إدارة متطوعة لها نفوذ قوي وتحتل مكانة اجتماعية هامة لما يوليه المواطن الأمريكي من أهمية للأعمال الاجتماعية المشتركة. 

ونلاحظ أن نشاط هذه المنظمات لم ينعزل عن اهتمامات مجتمعاتهم الوطنية رغم غلبة نشاطهم خارج حدود أوطانهم ، ونود أن نتوقف قليلا عند تعاطي هاته المنظمات مع موضوع العولمة في بلدان المنشأ،حيث نلاحظ أن نفس المنظمات التي تنشط في المحيط العربي مثلا، لا تتردد في الوقوف إلى جانب فئات هامة في مجتمعاتهم أصبحت تعبر بصوت عال عن معارضتها للعولمة التي أصبحت تهدد خصوصياتها الاجتماعية والثقافية وكذلك اقتصادياتها الوطنية،إذ نرى مثلا منظمة أوكس فام البريطانية المنشأ تكثف من نشاطها داخل البلدان الأوروبية عبر شبكاتها وتحشد الدعم المالي له قصد الدفاع عن هذا التوجه، إذ بلغت ميزانيتها في هولندا 145 مليون يورو سنة 2002 و 270 مليون يورو في بريطانيا في نفس السنة وقد توقع دينيس كوسنور في صحيفة الأصداء الفرنسية سنة 2003 أن ترتفع ميزانيتها بنسبة 49 %  في السنوات اللاحقة بسبب دعمها  للتيارات المناهضة للعولمة في بلدانهم.

ولنفس الأسباب ارتفعت ميزانية منظمة كار care  الأمريكية إلى حدود 367 م.يورو و”قرين بيس” إلى 165 م.يورو وكذلك شبكة wwf  التي ناهزت ميزانيتها 352 م. يورو وأخيرا منظمة eurostepالبلجيكية والتي أسست شبكة من 19 منظمة عبر 13 دولة في  أوروبا حيث بلغت ميزانيتها 650 م.يورو، وتنشط كل هذه الجمعيات أو المنظمات في بلدانها بقوة لمساندة المسيحيين الكاتوليك الذين يرفضون الطلاق وعمليات الإجهاض والزواج المختلط ويدعمون الفلاح والصناعي الفرنسي أو البريطاني الذي يشتكي من المنافسة الخارجية بدعوى أن كلفة الإنتاج لدى المنافسين لهم من إفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية أقل بكثير.

لذلك تسائلنا منذ البداية حول أهداف هذه المنظمات في بلداننا العربية ومدى التزام هذه المنظمات وما يتفرع عنها من جمعيات أو منظمات عندنا بالشعارات التي ترفعها عندنا.  

الجمعيات والمنظمات والتحولات الاجتماعية في تونس    

نتذكر أنه في السنوات التسعين والألفين كانت الجمعيات في تونس تنشأ بمقتضى قرارات سياسية مثل جمعيات صيانة المؤسسات التربوية أو الجمعيات المائية وهي جمعيات أحدثت بمقتضى منشور من وزارة الفلاحة للتصرف في مياه الري والشرب المتأتية من شبكات أنجزتها إدارة الهندسة الريفية لوزارة الفلاحة و الجمعيات التنموية التي أنشأت كذلك بقرار حكومي لتتولى عملية توزيع قروض مالية صغرى  وأخيرا مجمعات التنمية الفلاحية وهي شبكة من الجمعيات التنموية الصغرى التي تجتمع في شكل مجمع         ( GDA )،إضافة إلى الجمعيات الثقافية (التي كانت تسمي لجان ثقافية ) والاجتماعية (جمعيات المكفوفين وفاقدي السند وكبار السن ..) ونعلم  أن كل هذه الجمعيات وعددها تجاوز الـ 8 آلاف جمعية كانت نتيجة قرارات رسمية وقد قدمت السلطة الحاكمة هذا الإجراء على أنه خيار شعبي تلقائي بينما يعلم كل مطلع أن كل الأصناف المذكورة من الجمعيات قد تم إنشاءها بأوامر صادرة عن الحكومة ، وكانت السلطة السياسية تحرص على استيفاء الجوانب القانونية الشكلية حتى يُقدم مشهد “المجتمع المدني” القائم على أنه إنتاج مدني،بينما إذا ما استثنينا المنظمات الكبرى التي تنشط في المجال النقابي والحقوقي فإن كل أو جل الجمعيات كانت من صنع النظام السياسي الحاكم ،وقد أنتج هذا الواقع شعورا لدى المواطن بأن هذه المؤسسات هي أدوات للنظام القائم وكان يتعامل معها من منطلق مصلحي صرف،أي أنه لم يكن يؤمن بمصداقيتها وارتباطها الفعلي بمشاغله الحقيقية   .

وقد شهدت السنوات 2011 /2019 عودة مكثفة إلى الفعل السياسي والمدني وتم تكوين أحزاب وحركات سياسية وهو ما يعني عودة الرغبة الطبيعية في الفعل  الاجتماعي والسياسي،حيث  انفجار عدد الجمعيات المدنية في كل المجالات وقد سُمح رسميا (نظريا على الأقل ) بتأسيس جمعيات على أساس القانون عدد  88  لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011،ورغم التخبط الحاصل في ضبط عدد هذه الجمعيات من طرف رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية وبعض المراكز المختصة ، فإن آخر الإحصائيات المتوفرة إلى غاية جويلية 2019 و التي أصدرها مركز إفادة تفيد أن عدد الجمعيات بلغ  22734 جمعية،وهي تتوزع (حسب نفس المصدر) إلى :7.5% جمعيات علمية و %11.2 جمعيات رياضية و 21.4% جمعيات تربوية (مدرسية) و 11.2% جمعيات خيرية و%18.6 جمعيات ثقافية إضافة إلى الجمعيات الحقوقية والمواطنة والبيئة والنسائية والشبابية وتمثل مجتمعة حوالي 12% . 

ونلاحظ أن هذه الجمعيات تتوزع على جهات البلاد بشكل غير متناسق حيث تمثل نسبة الجمعيات في ولاية تونس 19.9% وهي تحتل المرتبة الأولى وبهامش كبير بالنسبة لبقية الولايات حيث نلاحظ أن أقرب الولايات لولاية تونس العاصمة هي جهة صفاقص بنسبة 7.9 %ونابل بنسبة 6.2 %وأريانة بنسبة 5 %وفي المرتبة الثالثة نجد ولاية سوسة بنسبة 4.7% والمنستير بنسبة 4.1% وبن عروس بنسبة 4.1 %وبنزرت بنسبة 4.1 %أما باقي الولايات فتتراوح نسبة تواجد الجمعيات بها بين 1 و 3%  . 

ونلاحظ بيسر تمركز عمل المجتمع  المدني بتونس العاصمة تحديدا، ثم بالمراكز العمرانية الكبرى مثل ولاية صفاقص ونابل ثم سوسة والمنستير وهي مراكز تتوفر على نسب تعليم عالية إضافة مقدرة شرائية مقبولة (بالمعايير الوطنية) وعندما ندقق في هذه الإحصائيات نرى أن أغلب الجمعيات التي تنشط بهذه المدن تهتم بالنشاط الثقافي والعلمي والرياضي ،إذ توجد بولاية تونس 743 جمعية علمية و795 جمعية ثقافية و381 جمعية رياضية وكذلك الشأن بولايات الصف الثاني المذكورة،بينما تتضاءل هذه الأرقام إلى حدود 7 جمعيات علمية بقبلي و7 بتطاوين و4 بالكاف و33 جمعية بزغوان و 303 جمعية ثقافية بكل الشمال الغربي (رغم استغرابنا لهذا الرقم دون التشكيك في أرقام مركز إفادة ولكننا لا نرى أثرا ماديا لهذا الرقم ) ،وإذا علمنا أن نوعية  الأنشطة تعبر عن مستوى العيش واهتمامات المواطنين فإن هذه الأرقام تعبر بشكل واضح عن طبيعة نمط عيش السكان وقدرتهم على توفير الجهد أو الاهتمام الكافي للنشاط الثقافي أو العلمي أو الرياضي و التفاوت الجهوي الحاد الذي تعيشه البلاد و الذي يكشف انعدام التوازن في الاستثمار العمومي بين العاصمة والمناطق “المفيدة” وباقي المناطق في ما يتعلق بالبني تحتية والتجهيزات الضرورية لهذه الأنشطة التي تكاد تكون غائبة في الجهات الضعيفة اقتصاديا.

وإنه من الضروري التأكيد على أن عدد الجمعيات مخالف لما  تقدمه الأجهزة الرسمية، خاصة وأن الجمعيات التي وجدت قبل 2011 تمثل مجتمعة حوالي 32%من مجمل الجمعيات والمنظمات التي شملها تقرير مركز إفادة والأجهزة الرسمية الأخرى ودليل ذلك، الحديث عن وجود 4586 جمعية مدرسية في حين أن تقارير وزارة التربية المعنية بهذا الشأن تبين أن حوالي 5% فقط من هذه الجمعيات لا تزال تمارس نشاطا حقيقيا وقانونيا  وكذلك الجمعيات التنموية (التي أُحدثت بمقتضى قرارات وزارية قبل 2011 ) ،إذ نعلم بحكم المعايشة والملاحظة الميدانية أنه لم يعد هناك وجود لحوالي 2200 جمعية باستثناء القليل منها والتي تهتم بتوزيع الماء الصالح للشراب، وكذلك في ما يخص الجمعيات الثقافية والرياضية وهو ما يتطلب تدقيقا إحصائيا أصبح ضروريا.

أما ما تبقى من جمعيات ومنظمات(وأغلبها أحدث بعد سنة 2011 ) والتي صنفها مرصد إيلاف إلى %36.5 جمعية وطنية و38% جهوية و15% محلية  وحسب نفس المصدر فإن 19% من الجمعيات الخيرية تمارس نشاطا مختلفا عن أهدافها المعلنة في قانونها الأساسي و11% تمارس نشاطا سياسيا و 13% تتلقى تمويلها من الأحزاب السياسية كما أن 33% من أعضاء الجمعيات ينتمون إلى أحزاب سياسية و 48% من الجمعيات الحقوقية كذلك تمارس نشاطا لا علاقة له بما هو معلن في قانونها الأساسي .

أما الوجه الأخر لعمل المنظمات والجمعيات وهو الأخطر على نسق حياة المجتمعات ونمطه،فهو تلقي نماذج فكرية وسلوكية جاهزة ظهرت في الغرب  وقرر موظفون بمكاتب الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو غيرهما من المنظمات الدولية تصديرها لمجتمعات أخرى وخاصة مجتمعات العالم الثالث حيث أصبح تطبيق أسس هذه النماذج (أو المناويل ) شرطا أساسيا لدى البنك الدولي أو الصندوق الدولي أو الأمم المتحدة ،قبل الموافقة على إسناد القروض أو القبول بمنظماتنا وجمعياتنا للمشاركة في برامجها والحصول على التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه البرامج.

و إن هذا الاهتمام المجتمعي بالعمل المدني بقدر ما نعتبره ظاهرة صحية تدل على قدرة هذه المجموعة البشرية (تونس) ، على التأقلم مع المتغيرات الكونية الجديدة، يطرح في نفس الوقت تحدّ، على كل من يريد أن يُعمل العقل في فهم ما يحصل والتريث في التعامل مع الأحداث والمفاهيم والأفكار الواردة علينا بسرعة وكثافة، حيث أن واقع العمل الجمعياتي في تونس يطرح العديد من الأسئلة  حول أشكال التنظيم ومضامينه وعلاقة هذه الأنشطة أولا بالأطر القانونية وثانيا بالواقع المعقد لمجتمعنا في كل المجالات وقدرة الفئات التي تتولى النشاطات التطوعية على فهم هذا الواقع   و تقديم الحلول العملية له  (على محدودية هذه الحلول بالنسبة للحاجات الوطنية في جملتها ).

ونستطيع الإدعاء أن ما تقدمه هذه المنظمات ليس كله مرفوضا أو غير متصل بواقعنا الاجتماعي أو أنه جزء من مؤامرة تحاك ضدنا لسلبنا سيادتنا أو فسخ هوياتنا،إذ أن واقع الأشياء أكثر تعقيدا ويصعب القبول بالقول أن كل منظمات الدنيا والعاملين بها من علماء وفنيين وإداريين وعملة ليس لهم من اهتمام سوى محاصرتنا نحن و تزييف وعينا بواقعنا من أجل سلبنا إرادتنا وأننا نحن،أناس أسوياء نملك من الوعي والقدرة على الفعل ما يمكنه أن يجعل منا مجتمعات متقدمة وحرة،يقول ماكس فيبر أن الهيمنة تتطلب فعل وقبول بالفعل وبالتالي فإننا نعتقد أنه إذا كانت رغبة بعض الدول الغربية أو الجهات في الهيمنة واقعا لا يقبل الدحض فإن منطق الأشياء يفترض أن نتساءل نحن حول أسباب التقبل السهل والسريع لدينا بالأنماط الثقافية والمجتمعية المقدمة والإيمان بحقنا بل  بواجبنا نحن كذلك أن نُعمل العقل في ما يمكن أن نقبل به من أفكار ومفاهيم وأنماط عيش نابعة من واقعنا نحن،فالتحدي الواقعي الحقيقي إذا، هو تحدي تحرير العقل ويجب أن يكون المعيار الصحيح لقياس تحرر العقل التونسي والعربي هو مدى استجابة ما نطرحه من أفكار ومفاهيم لواقعنا المادي البسيط كما نعيشه وندركه نحن.

شكري تيساوي

متحصل على دكتوراه في علم اجتماع التنمية الجهوية واللامركزية من كلية العلوم الانسانية و الاجتماعية بتونس دكتور شكري التيساوي، مختص في علم اجتماع التنمية والإدارة، باحث في مجالات التنمية والاقتصاد والإدارة، أستاذ بكلية العلوم القانونية والتصرف بجامعة جندوبة، عمل بوزارة التربية لمدة خمس سنوات ثم التحق بوزارة التخطيط والمالية لمدة سبع سنوات ومن ثمة التحق بوزارة الداخلية والتنمية المحلية لمدة 12 سنة ثم شغل خطة متفقد إداري ومالي بوزارة التربية منذ 8 سنوات