لخيارات السياسية والاقتصادية وانعكاسها على جهة جندوبة والشمال الغربي منذ 1956 .
- تقديم ولاية جندوبة :الإمكانات الطبيعية المتوفرة .
تقع ولاية جندوبة بالشمال الغربي للبلاد التونسية, و تمسح 310200كم2 يحدها من جهة الشمال البحر الأبيض المتوسط و غربا القطر الجزائري و شرقا ولاية باجة و جنوبا ولايتي الكاف وسليانة لها حدود شاطئية بطول 25 كم و منطقة غابية مساحتها 118.470 هكتار وهي أكبـر منطقة غابيـة بالبلاد وتبلغ المساحات الصالحة للزراعة بها 282.2 ألف هكتار منها حوالي 40 ألف هكتار سقوي 3 معابر حدودية بـرية نحو الجزائر ولها حدود شرقية مع الجزائر بطول 150 كم . و تبعد عن تونس العاصمة 150 كم وهي عاصمة إقليم الشمال الغربي وتبعد عن عواصم ولايات الكاف (50 كم) و باجة (50كم) و سليانة (120 كم).
و تعد ولاية جندوبة 401.477 ألف ساكن’ يقطن 27.3 %منهم بالمناطق الحضرية و 72.7% بالمناطق الريفية و تمثل نسبة سكان الغابة بالجهة 52 % من إجمالي السكان و البطالة 25.6. % و الأمية 32.1.
وهو ما يدفع للتساؤل حول أسباب هذه الأرقام المفزعة حول البطالة و الأمية و الفقر و التهميش الذي يميز اقتصاد الجهة و الحالة الاجتماعية لسكانها.
الميزات الطبيعية و التاريخية للجهة.
يوجد بولاية جندوبة عدة مناطق أثرية هامة, تحمل إلى اليوم أثار الحضارات المتعاقبة على الجهة و أهمها الحضارة الفينيقية و الرومانية , وهي أهم هذه الناطق : منطقة بلطة بوعوان بمرتفعات معتمديه بوسالم و تبرنق بمعتمديه غار الدماء و بلاريجيا و شمتو و أولاد هلال بمعتمديه جندوبة الشمالية و بمعتمديه طبرقة بمرفئها وبرجها ومسرحها الروماني .
و قد كانت كلها و على امتداد قرون, مناطق إشعاع حضري و اقتصادي و حتى سياسي .و شواهد ذلك هو تحول المنطقة إلى عاصمة للدولة البربرية في عهد القائد البربري ماسينيسا و احتلال ميناء طبرقة موقعا تجاريا هاما منذ القرن الخامس عشر في حوض البحر الأبيض المتوسط.ليكون المنقذ التجاري الأهم في تونس و على امتداد قرون , و قد كان قبلة للتجار الاسبانيين و الايطاليين و الفرنسيين و الانكليز و كانت كل سهول مجردة ممولا رئيسيا للميناء بمختلف المواد الفلاحية من زيت زيتون ومواش وجلود معالجة وخضر وخمور ،إضافة إلى المرجان و الرخام ومادة السيليس …
كما كان لبلاريجيا و شمتو إشعاع عمراني و سياسي لافت حيث حظيت في العهد الروماني بصفة المدينة الرومانية و كان لها مقعدا بمجلس الشيوخ الروماني .
و كان من الواجب (وطنيا) أن يقع الاهتمام بهذا الإرث التاريخي الهام في زمن تتفق فيه شعوب أخرى ألاف المليارات بحثا عن ملامح تاريخ اندثر, بينما تنصب مدن فينيقية و رومانية بجهة جندوبة شاهدة على عصور من تاريخ الجهة و هي ثروة ثقافية و فكرية كان يمكن استغلالها سياحيا بأقل التكاليف و خلق مئات مواطن الشغل و بعث ديناميكية اقتصادية جديدة و خلق مناخ ثقافي متجدد.
تتمتع ولاية جندوبة بخصائص ذات أهمية قصوى كان يمكن أن تتحول إلى دعائم لتنمية جهوية متكاملة و تحول الجهة إلى قاطرة للتنمية بإقليم الشمال الغربي و هي :
الحدود البحرية :
تمثل الحدود البحرية لولاية جندوبة (25 كم) منفذا استراتيجيا على جنوب ارويا و القطر الجزائري ( وقد كانت كذلك تاريخيا) و فرصة للتبادل التجاري و لتطوير سياحية شاطئية و غابية و ثقافية تتوفر لها كل شروط النجاح دون حاجة وطنية ثقيلة.
كما يتوفر بحر الشمال الغربي على حوالي 20 %من الثروة السمكية الوطنية الغير مستقلة و التي يمكن إنتاجها و تحويلها على عين المكان و تصديرها مما يوفر موارد مالية هامة و ألاف مواطن الشغل بالمنطقة , إلا أن الادعاء المركزي بان مياه الشمال عميقة و مكلفة حال دون انجاز هذا المشروع و اغرق جهة طبرقة و عين دراهم و المناطق المجاورة في البطالة.
المنطقة الغابية :
تمتلك ولاية جندوبة البر منطقة غابية بالبلاد وهي تتوفر على مساحة جملية قدرها 118.470 هك. وهي تمتد في حدودها الغربية (معتمدية غار الدماء) إلى حدودها الشرقية مع ولاية باجة مرورا بمعتمدية فرنانة و عين دراهم.
و يحتوي الغطاء الغابي بولاية جندوبة على عدة أنواع من أشجار: الزان والفرنان والصنوبر الحلبي و الأعشاب الطبية مثل الريحان والزعتر الكليل … و النباتات الفطرية و الحيوانات الغابية مثل : الأيل والخنزير والجواد البربري إظافة عدة أنواع من الطيور إلى جانب العديد من العيون المائية الاستشفائية الطبيعية و كميات هائلة من الطين ذو الجودة العالية و المستعمل في صناعة الأواني الخزفية و الآجر و القرميد والخيزران والخفاف وعدة أنواع من الأخشاب الصالحة لصناعة التحف بأنواعها .وهي في مجملها أراضي دولية, تحت تصرف الإدارة العامة للغابات و هي تحتكر عملية التصرف في كل منتجاتها من حطب و فرنان و نباتات طبية.
علما أن 52 % من سكان ولاية جندوبة يقنطون بهذه المناطق.وقد أدى احتكار الإدارة المذكورة ,إضافة إلى ما تم تضمينه بالمجلة الغابية و خاصة الفصل 18 منها و القاضي يمنع السكان من استغلال الثروات الغابية و ضيق عليهم لمنعهم من تربية الماشية داخل الغابة و منعهم من الاحتطاب و تقطير النباتات الطبيعية إلا عبر المشاركة في لزمات سنوية (تسيطر عليها حوالي 6 شركات من خارج الجهة و الإقليم بقوة المال و منذ عقود).
وقد أدى هذا الوضع إلى التفريط في ثروة وطنية على امتداد عقود , كانت كفيلة بخلق ثروة هامة و ألاف مواطن الشغل, دون حاجة إلى استثمارات وطنية كما هو الحال بالنسبة لعدة قطاعات أخرى استثمرت فيها الدولة لخلق مواطن شغل.
كما كان بالإمكان للمنطقة الغابية بجندوبة أن توفر فرص استثمار هائلة في قطاع السياحة الغابية و البيئية و أن توفر منتوجا يختلف نوعيا عما يعـرض في باقي البلاد , خاصة و أنها مرتبطة بالبحر و تحدها عديد المناطق الأثرية.
القـطاع الفـلاحــي:
إضافة إلى الصيد البحري و الفلاحة الغابية اللتان تمت الإشارة لهما سابقا فان سهول مجردة توفر مساحة هامة من الأراضي الفلاحية ( 286.200هك. ) , حوالي 41 ألف هكتار منها أراضي سقوية و باقي المساحة أراضي بعلية و لكنها تتلقى سنويا كميات هامة من الأمطار( بين 400 و 1200 مم) وهي تساهم في الإنتاج الوطني الفلاحي.
حبوب ( 9 %)- ألبان ( 13.4 % ) – لحوم ( 6 %) – ألبان ( 13.6 ) – بطاط ( 15.3 % ) – زيتون ( % ) – خفاف (94%) – خشب (% 34) – دخان ( 29% )
و يشغل قطاع الفلاحة بجندوبة حوالي 38 %من نسبة اليد العاملة بالجهة ويختص بالزراعات الكبرى و تربية الماشية و الأشجار المثمرة إلى جانب الخضر و الأعلاف.
و يعد قطاع الفلاحة في جندوبة قطاعا رتيبا تغلب عليه زراعة الحبوب و هو قطاع غير مصنع وهو ما يفسر غياب تراكم الثروة بالجهة و تطور الاستثمار
و كان يمكن استغلال التطور الحاصل في المجال العلمي منذ الاستقلال لتعميق البحوث العلمية في هذا القطاع و إيجاد الحلول الكفيلة بتحقيق القيمة المضافة و تطوير قطاع الفلاحة بدعم الاستثمار في مخازن التبريد و مصانع التحويل على عين المكان و تجنب كلفة النقل نحو جهات بعيدة عن مواقع الإنتاج إلى جانب تطوير البنية التحتية و توسعة المناطق السقوية و ضبط مسالك التوزيع ما كان سيوفر ألاف مواطن الشغل و دعم الاقتصاد الجهوي و الوطني.
المواد الإنشائية و الصناعة بالجهة:
يتوفر بولاية جندوبة كم كبير و متنوع 1 من المواد الإنشائية ذات القيمة العالية مثل الأحجار الرخامية ( متعدد الأنواع و الألوان) والسيليس وهو صنف من الرمل الصالح لصناعة البلور و الطين الخزفي (ذو قيمة عالية). و المواد المقطعية الصالحة لانجاز الطرقات و السدود و البناءات المدنية.
و على الرغم من الطلب الكبير على هذه المواد وطنيا و عالميا فانه لا يوجد بجندوبة سوى مقطعي رخام تقليديين و مقطع رمل بدائي.
و إن الاستثمار في هذا القطاع يوفر امتيازات عديدة أولها توفر المادة الخام مجانية و ذات جودة عالية, قرب هذه المشاريع من مصادر الطلب في شمال البلاد و شرقها إضافة إلى عديد ولايات الشرق للقطر الجزائري,إضافة إلى الامتيازات الجبائية و توفر يد عاملة متعلمة و يمكن ان يوفر الاستثمار في هذا القطاع ألاف مواطن الشغل المباشرة و الغير مباشرة و ان يخلق ديناميكية اقتصادية جهوية تعتمد على عوائد مالية محلية من اجل تطوير الاستثمار في عدة قطاعات أخرى مريحة مثل المياه المعدنية و الحمامات الاستشفائية و قطاع الخدمات, إضافة إلى الضغط على كلفة الانجاز الهامة جدا بالنسبة للفاعلين الاقتصاديين الجهويين في مجال مد الطرقات و السدود و البناءات المدنية
- جندوبة و الحق في المعرفة.
من مظاهر التهميش الذي لا يكتفي بما خلفه من ضرر في الماضي بل يمتد إلى مصادرة المستقبل, أن تمنع من الولوج إلى معرفة ماضي الجهة , حيث يملك المركز آلة بيروقراطية ضخمة تحتكر الوثائق الإدارية والتاريخية و تمنعك من الولوج إليها عبر بناء سلسلة من الحواجز الإدارية و الإجرائية و اعتمادا على نخبة من البيروقراطيين الذين لا يفهمون سعي أبناء هاته الجهات للبحث في تاريخ جهاتهم,فأي تاريخ لهم هؤلاء ؟ و هذا هو حال جهة جندوبة التي تفتقد إدارتها الجهوية إلى كل الوثائق التي توثق لمرحلة هامة وهي مرحلة بناء الدولة الوطنية أي منذ 1956 إلى غاية السبعينات بدعوة عدم وجود إدارات لحفظ الوثائق في البدايات وعجزها عن ذلك في السنوات اللاحقة لقلة الإمكانيات, فماذا إذا أردنا البحث عن تاريخ الجهة في الأرشيف الوطني و ليس لدينا تواريخ هذه الوثائق و أرقام إحالتها هناك.
الإجابة هو أن الأمر يصبح مستحيلا, وهي مصادرة لحقوق الناس في المعرفة و حقوق مجموعات بشرية بأكملها في معرفة تاريخها و بناء مستقبلها و لقد وجدنا أنفسنا في جهة جندوبة أمام استحالة الاطلاع على ما وقع في الفترة المذكورة لرسم صورة عن كيفية ظهور المؤسسات في الجهة و تجربة التعاضد الاشتراكية وفترة الانفتاح الاقتصادي في بداية السبعينات و كيف كان الوضع التعليمي و الصحي و الحالة الاقتصادية, واضطررنا إلى الاعتماد على بعض الأرقام و المؤشرات الوطنية الهزيلة ببعض الوثائق الرسمية و نقرا من خلالها الأرقام و المؤشرات الوطنية و عن الشمال الغربي لاستخراج صورة موضوعية عن واقع الجهة في تلك الفترة ,ثم اعتمادها في منهج مقارن لفهم الوضع الحالي بكل أبعاده بجهة جندوبة
وضع قطاع التعليم بجهة جندوبة
اختارت تونس منذ إرساء العشرية التنموية (1961 -1971) الأولى أن تخصص الجزء الأهم من الاستثمار العمومي السنوي (30% سنويا) 1 لبناء منظومة تربوية كفيلة بالقضاء على الجهل و الأمية , و قد سجل الاستثمار في قطاع التعليم في تلك العشرية ارتفاعا سنويا ب %10 من حجم الاستثمار العمومي حيث ارتفع عدد المدارس 889 مدرسة سنة 1958 إلى 2180 سنة 1969 كما ارتفعت نسبة المتمدرسين من 4%سنة 1959 إلى 80 سنة 1970, بينما لم تبلغ نسبة التمدرس في ولاية جندوبة إلى غاية سنة 1984 إي بعد خمسة عشر سنة من التاريخ المذكور سالفا سوى 69.3% و تعود الأسباب إلى أن السلطة الحاكمة سنة 1956 قد اختارت أن توجه الاستثمارات المذكورة منذ 1956 إلى غاية الثمانينات إلى إقليم تونس و الساحل الشرقي بدعوى العمل على إنتاج اليد العاملة الكفئة لدعم السياسة الاقتصادية التي انبتت على دعم السياحة الشاطئية و بعث أقطاب صناعية تحويلية و في قطاع النسيج و الصناعات الالكترونية لضمان أرباح سريعة يحتاجها الاقتصاد الوطني. وقد أقرت الحكومات المتعاقبة بإعطاء الأولوية للجهات الشرقية للبلاد لما يتوفر بها من بنية تحتية ونسيج بشري متعلم (مقارنة بباقي الجهات) إضافة إلى موقعها الجغرافي وهو ما يوفر نمو اقتصاديا أسرع.
وقد أدى هذا الخيار إلى إهمال جهة جندوبة منذ سنة 1956 , حيث اكتفت الجهة بما تركه الاستعمار من مؤسسات تربوية أي تقريبا مدرسة في كل معتمدية من معتمدياتها . وقد حرم ريف الولاية الذي كان يمثل 75 % من جملة سكان الجهة من الانتفاع بحق التعليم طيلة فترة الستينات و السبعينات و الثمانينات 2.
و لم يشفع لأبناء جهة جندوبة انتشار المدارس الريفية في منتصف الثمانينات , حيث أن الفقر و طول المسافة الفاصلة بين السواد الأعظم من التلاميذ الريفيين و المدرسة لا يقل عن أربعة عشر كم ذهابا إيابا إضافة إلى صعوبة التضاريس (الغابية و الجبلية ) , حيث أن 52 % من سكان جندوبة يقطنون بالمناطق الغابية , إضافة إلى الانعدام الكلي للبنية التحتية, كل هذه العوامل الموضوعية منعت أبناء جهة جندوبة من الانتفاع بالتمدرس.
و مما زاد الوضع تعقيدا في العشريات الأخيرة أن ما بين مدارس يفتقد إلى الحماية و التنوير و الماء الصالح للشراب و انعدام السكن للمربين مما يجبرهم على قطع مسافات تفوق 140 كم يوميا (جندوبة- السري من معتمدية غار الدماء) .
وقد تحولت منطقة جندوبة إلى منطقة عبور بالنسبة للمعلمين و الأساتذة المنتدبون الجدد من أبناء العاصمة و المناطق الساحلية و الذين يقضون سنتين أو ثلاثة سنوات لتعلم المهنة ثم يغادرون ، حيث سجلت جهة جندوبة سنة 1994 أعلى نسبة لصنف المعلمين المتعاقدين و المتربصين ( 325 معلم متعاقد و 233معلم متربص ) 3 في حين لم تقبل ولاية سوسة في نفس السنة سوى معلمين متعاقدين فقط و هو ما يثبت التفاوت القاتل بين أبناء الوطن الواحد.
و قد أصبح لولاية جندوبة إدارة جهوية للتربية بعد ثلاثين سنة من الاستقلال (أواخر الثمانينات) و تميز إطار الإشراف فيها بقلة العدد و الكفاءة و عدم الاستقرار , إذ يتم جلبهم من العاصمة و جهات الساحل ، أما في إطار عقوبة أو لقضاء فترة تربص في خطة قيادية جديدة يغادرون على إثرها نحو مناطق إقامتهم.
لقد أدى هذا الوضع الكارثي على امتداد ستين سنة إلى نتائج مدمرة للجهة و لسكانها، فقد حكمت السياسات المتبعة من طرف السلط الحاكمة على جيلين من أبناء الجهة بالجهل المؤدب و دفعت بهم إلى العمل بحضائر البناء و الأشغال العامة أو كمعينات للمنازل بالنسبة للفتيات.
وهو ما يفسر كذلك نسبة الأمية المرتفعة إلى غاية اليوم, حيث أن النسبة العامة في ولاية جندوبة تبلغ 40% بينما تصل إلى 45% في معتمدية فرنانة و كذلك نسبة النجاح في الامتحانات الوطنية حيث سجلت الجهة نسبة نجاح تقدر ب %25,98 في امتحانات البكالوريا لسنة 2015 لتحل في المرتبة قبل الأخيرة وطنيا 4.
الوضع الصحي بجندوبة :
يعاني الوضع الصحي بجهة جندوبة على غرار غيره عن القطاعات من الإهمال من قبل السلط المركزية منذ 1956 .
فقد ورثت جندوبة مجموعة من البناءات عن المستعمر الفرنسي , على غرار المستشفى الجهوي بجندوبة, وحولتها إلى مؤسسات صحية لتقديم الخدمات الصحية الممكنة في ضل اهتراء المباني و غياب التجهيزات الطبية علاوة على غياب الإطار الطبي بكل أصنافه و إدارة جهوية تسهر على تنظيم الخدمات الإدارية و الصحية بالجهة و قد تم بناء مستشفى جهوي بولاية جندوبة سنة 1982 و مجموعة من مراكز الصحة الأساسية (90 % منها تعاني اليوم من التقادم و تفتقر لأدنى الشروط الصحية) , 75 % منها تفتقر إلى الماء الصالح للشراب إلى غاية اليوم , كما أن 95 % منها من صنف 1 و 2 , أي أنها تكتفي بتقديم الخدمات الصحية الأولية و لا تمتلك القدرة على متابعة أو معالجة أصحاب الأمراض المزمنة ( سكري , ارتفاع ضغط الدم , تصفية الكلى … ) من سكان الريف و الغابات الذين يمثلون 52 % من سكان جندوبة, كما أن هذه المراكز لا تمتلك سيارات إسعاف لنقل الحالات الحرجة إلى مستشفيات جندوبة, طبرقة , غار الدماء, أو بوسالم , بل أن الإدارة الجهوية للصحة لا تمتلك السيارات الكافية لنقل أعوانها للمناطق الجبلية و الريفية.
وقد ارتأت السلطة السياسية منذ السبعينات أن لا تزعج الأطباء من أبناء الجهات المحظوظة بإرسالهم للعمل في ولاية جندوبة كما يفرضه القانون و استعاضت عنهم بجلب أفواج من الأطباء (اختصاص طب عام في الأغلب ) من الصين الشعبية و بعض بلدان شرق ارويا ليمارسوا مُدد تربصهم بجهتنا و لازالت ولاية جندوبة الوجهة المفضلة لأطباء الصين الشعبية و لازلنا إلى غاية 2016 نعاني قلة الأطباء بالجهة حيث تسجل جندوبة طبيب (طب عام ) واحد لكل 4700 مواطن مقابل طبيب لكل 3500 مواطن على مستوى وطني و طبيب مختص واحد لكل 6700 مواطن مقابل طبيب لكل 1700 مواطن على المستوى الوطني , كما أن إقرار المستشفى الجهوي بجندوبة مستشفى جامعيا منذ سنوات لازال حبرا على ورق , و يتم حرمان حوالي نصف مليون ساكن يدفعون ضرائبهم و يساهمون في الناتج الوطني الخام (رغم حرمانهم من وسائل الإنتاج ) من الانتفاع بخدمات صحية دنيا على غرار باقي الجهات.
الوضع الفلاحي بجندوبة :
مـقدمــة
لقد عانت جهة جندوبة لقرون عدة من عملية نهب منظم لخيراتها من قبل البايات ثم تواصلت عمليات النهب والإفراغ الوحشي للجهة من ثرواتها طيلة فترة الاستعمار المباشر الفرنسي , و كان إعلان الاستقلال سنة 1956 , إعلان أمل لهذه الجهة لكي تسترد حقها في الأرض و في الحياة , إلا أن سوء تقدير الحكومات الأولى , منذ بداية الستينات, و التي فرضت نظام التعاضد الاشتراكي إضافة إلى تسلط إداراتها المركزية التي رأت في جهتنا حلقة ضعيفة فبادرت بتطبيق هذا النظام بها قبل باقي الجهات و قبل حتى صدور القوانين المنظمة للعمل التعاضدي, أدى إلى مزيد تفكيك النسيج الاقتصادي و الاجتماعي ثم تلت هذه المرحلة مرحلة الانفتاح الاقتصادي , حيث تم إجبار الجهة على إتباع نظام إنتاج أحادي يعتمد زراعة الحبوب على حساب غراسة الأشجار و تربية الماشية وإهمال قطاع الصيد البحري و الفلاحة الغابية, إضافة إلى تجميد أسعار الحبوب لمدة تفوق أربعين سنة لتشجيع الصناعات التحويلية و التي تركزت بدورها بعيدا عن مصادر الإنتاج و تم حرمان الجهة من مراكمة الثروة و خلق فائض القيمة في فترة التعاضد وما تلاها من مراحل الانفتاح الاقتصادي .
تفكك النسيج الفلاحي والاجتماعي بجندبة جلال عشرية التخطيط الاشتراكي.
انبنت سياسة التعاضد “الاشتراكية الدستورية” على مبدأ تأميم الأراضي الخاصة و تشريك المزارعين و العملة في عملية الإنتاج تحت إشراف الدولة و أوكلت عملية التصرف إلى وحدات إدارية تسمى التعاضديات .وتم اعتماد سياسة التدرج في الانجاز حيث تمت مصادرة أراضي الشمال الغربي و بالتحديد جندوبة ثم التوسع نحو الجهات الأخرى, كما تم إقرار مبدأ مصادرة أراضي صغار الفلاحين ثم التوسع نحو الضيعات الكبرى.
و كانت نتيجة هذه السياسة أن تمت مصادرة حوالي 25 % من الأراضي الخصبة في جهة جندوبة في بداية التنفيذ (1962-1964 ) وهي أراضي على ملك حوالي 70 % من فلاحي الولاية و تم إخضاع المزارعين إلى نظام التأجير العمومي وتمت ميكنة العمل الفلاحي مما دفع آلاف العائلات إلى البطالة الجبرية و مئات المزارعين إلى البطالة المقنعة, حيث أقر التقرير الثامن للمخطط الثلاثي الثاني أن العمال لا يشتغلون سوى 13 ساعة في الشهر كما تم إتلاف آلاف الهكتارات من القوارص و الأشجار المثمرة الأخرى و العنب لتعويضها بزراعة الحبوب والخضر إضافة إلى خسارة الآلاف من رؤوس الأغنام و الأبقار التي أجبر أصحابها على بيعها بأبخس الأثمان .
بينما لم يتعدى الاستثمار العمومي في القطاع 24 %من جملة الاستثمارات في السنوات 1962- 1966 و تم تخصيص 50 % من هذه النسبة لبناء السدود كما تم تخصيص الجانب الأهم من النسبة المتبقية لتركيز التعاضديات و شراء التجهيزات و التسيير لنفهم أن هذه الاستثمارات على محدوديتها, مقارنة بما تم تخصيصه لبناء صناعات تحويلية و إلكترونية و ميكانيكية و صناعة الملابس و كذلك لما تم رصده لبناء بنية تحتية حديثة في إقليم العاصمة و جهة الساحل و الذي كان يعادل حوالي 80 % في جملته من الموازنات العامة منذ 1962 إلى نهاية الستينات.
نستخلص إذا من هذه الأرقام أن الاستثمارات في القطاع الفلاحي اهتمت بما هو وطني ( بناء سدود بالشمال ) بالأساس و الفلاحة تماما وهو ما يفسر تدهور نسبة الإنتاج الفلاحي في الدخل الوطني الخام
(كانت نسبة مساهمة الإنتاج الفلاحي تقدر ب 24 % في سنة 1960 لتصل إلى 14 % في سنة 1970 ). وعرفت جهة جندوبة تطورا هاما في ظاهرة النزوح حيث غادرها 23 ألف مواطن سنة 1966 فقط نحو المناطق المجاورة كما غادرها في المدة اللاحقة 8 آلاف مواطن نحو الخارج وقد هذه الظاهرة إلى أدت إلى إفراغ الجهة من عمالتها القادرة على الإنتاج.
نتائج الانفتاح الاقتصادي منذ 1971 إلى غاية 2016 :
و عندما سقط نظام التعاضد بسبب رفض الجهات الشرقية له و فشله في تحقيق النتائج المؤملة و تم إرجاع الأراضي إلى أصحابها بمقتضى قانون 22 سبتمبر 1969 , واجه فلاحوا الجهة عشرية سوداء أخرى بسبب إتلاف إمكاناتهم المادية و امتناع البنك الوطني الفلاحي عن تمويل عملية الإنتاج بالنسبة لصغار الفلاحين و هو ما تسبب في موجات نزوح جديدة و عمليات بيع للأراضي بأثمان بخسة و ارتفاع نسبة البطالة في الريف بالجهة فترة الانفتاح الليبرالي 1970-2016 .
لم تكن فترة الانفتاح الاقتصادي أفضل حالا بالنسبة لجهة جندوبة إذ بالرغم من المرونة النسبية للبنك الوطني الفلاحي في تمويل عملية الإنتاج في أواسط الثمانينات و استثمار الدولة في انجاز منطقة سقوية عمومية بالجهة بلغت مساحتها 36 ألف هكتار وهو ما سمح بمد بعض المسالك الريفية و السقوية و عودة عملية إنتاج الخضروات و تربية الماشية و زراعة الأشجار المثمرة , فان الدولة لا تزال تحافظ على خياراتها المتمثلة في فرض زراعة الحبوب كخيار استراتيجي لتحقيق الاكتفاء الذاتي مع فرض تسعيرة مجحفة عند الإنتاج, كما عمدت , تنفيذا لتعليمات البنك الدولي حيث لم يتجاوز سعر القنطار 26 دينارا إلى غاية 1994 , بتحوير القطاع , برفع الدعم عن البذور و الأسمدة و المحروقات و قطع غيار الآلات الزراعية كماتم رفع الامتيازات الديوانية التي كان يتمتع بها الفلاحون عند استيراد آلة حصاد أو جرار فأغرقت بكل هذه الإجراءات الفلاحين الصغار و الكبار في الجهة في دوامة المديونية ليغلق باب الاقتراض من جديد بعد أن فتح لمدة وجيزة.حيث لا يتمتع في السنين الأخيرة بالقروض الموسمية سوى 24 %من الفلاحين.
وقد فرضت الإدارة المركزية على فلاحي المناطق السقوية دفع معلوم مقابل مياه الريّ قدرت ب 125 مليم للمتر المكعب (في حين تم تسعيره ب 60 مليما لفلاحي الوطن القبلي رغم كلفة نقل مياه الشمال) و حدد هذا المبلغ لخلاص معلوم الكهرباء و عمليات صيانة شبكة المياه و الطرقات إلا انه تم إهمالها تماما منذ 1983, رغم أن عمليات الخلاص فاقت في عديد المرات نسبة 115 %, علما و أن الإدارة المركزية فرضت كذلك اقتطاع ميزانية التصرف للمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بجندوبة من معاليم خلاص الماء لتجبر الإدارة الجهوية على اقتطاع المعلوم المذكور و لو بالقضاء.
تهميش الدولة لقطاع الصناعة بجهة جندوبة
تعتبر ولاية جندوبة محيطا ملائما موضوعيا لبناء صناعة تحويلية هامة ’ كان يمكن التفكير فيها منذ الستينات , نظرا لتوفر المادة الأولية من حبوب و لحوم و ألبان و خضر و غلال , إضافة إلى أن كلفة التصنيع محليا اقل كلفة بكثير من نقلها على مسافات تفوق 200 كم لتصنيعها كما يمكن التفكير في السوق الجزائرية و الإفريقية (عبر الجزائر) التي كانت و لا تزال سوقا واعدة و تحتاج إلى كل ما تنتجه الجهة من مواد فلاحية طازجة و مصنعة إضافة إلى مواد البناء و الملابس الجاهزة وغيرها من السلع .
- و كان يمكن التعويل على توفر المواد الأولية على عين المكان (فلاحة-مواد إنشائية – مواد غابية ) لبعث صناعات مربحة و مضمونة الترويج ( حيث تم إهمال السوق الجزائرية رغم أهميتها لفائدة السوق الاروبية) و تم التوجه إلى إقليم العاصمة و الوطن القبلي و الساحل بدعوى توفر المواني و المرافئ و قربها من أوروبا و تم بناء هيكلا صناعيا أعرج يعاني من كلفة الإنتاج و بعده عن مصادر الإنتاج الفلاحي خاصة و المواد الإنشائية والبحرية و بالتالي أصبح غير قادر على ضمان قدرة تنافسية تضمن دخوله إلى السوق الأوروبية, إضافة إلى معاناته من الشروط المجحفة و التقلبات السياسية و عدم القدرة على منافسة إنتاجا اروبيا مدعما .
- و رغم أن السوق الجزائرية و الإفريقية كانت تمثل خيارا استراتيجيا لتنويع وجهة صادراتنا , فان الخيارات الوطنية التي حكمتها النزعة الجهوية و الخيارات السياسية الخاطئة تماما , قد حكمت على جهة جندوبة الى اليوم بالجمود الصناعي و الاقتصادي .
لقد اختارت الدولة التونسية ممثلة في الحكومات البورقيبية المتعاقبة , منذ الستينات , تركيز كل جهدها التنموي في إقليم العاصمة و الشريط الساحلي , ووجهت كل مواردها المالية لبناء نسيج صناعي متنوع في المناطق المذكورة مع توفير البنية التحتية الحديثة و الكفيلة بتوفير مناخ اقتصادي و اجتماعي يساعد على تطور قطاع الصناعة و اعتبرت الجهات الداخلية جهات غير ذات قيمة اقتصادية و حيث أن حق النفاذ إلى المعلومة لازال حبرا على ورق فإننا لم نستطع الحصول على أرقام و معطيات موثقة تخص (بالأرقام) الاستثمارات في مجال الصناعة الموجهة إلى جهة جندوبة لذلك فقد عمدنا إلى قراءة سياسة الدولة الصناعية من خلال الإحصائيات الوطنية منذ 1962 وتقارير اقتصادية صادرة عن جهات وطنية أو المؤسسات الدولية التي اهتمت بالوضع الاقتصادي في تونس .
و بالفعل فقد تم إقرار مبدأ الاستثمار و بقوة منذ العشرية 1962 -1971 في مجال الصناعات (الصناعات الالكترونية- الميكانيكية – صناعة اللوح –و البلور و الجاهزة و البتروكيميائية و مواد البناء …..) و كذلك الصناعات التحويلية (مطاحن حبوب – مصانع تجفيف … – مصانع حليب و مشتقاته – طماطم …. حيث تم تخصيص استثمارات جملية على امتداد الستينات تقدر ب :
1964 :32 مليون دينار 1965 54.7 مليون دينار 1966 36.1 مليون
أي بنسب تساوي :
1964 : 35 % 1965: 42% 1966: 28 %
و قد استتبع انجاز هذه الصناعات التي مولتها الدولة التونسية عبر عديد المؤسسات العمومية التي تم إنشائها للغرض ( أكثر من 300 مؤسسة عمومية 90 % منها ارتكزت بالعاصمة و الشريط الساحلي) استتبع هذا الجهد الضخم توفير تمويلات هامة لتوفير البنية التحتية (طرق سيارة- طرقات مهيكلة –معابر – مطارات –موانئ – نزل –تنوير عمومي …… ) و التجهيزات اللازمة لإنجاح المشروع حيث تراوحت الاستثمارات في هذا الباب :
1964 : 42% 1965 : 39% 1966 : %51
ونرى من خلال الأرقام المعروضة , الجهد المالي الضخم (على محدودية الموارد الوطنية) لبناء صناعة متنوعة وذات طاقة تشغيلية هامة , كما نرى بالعين المجردة انه لا شيء من هذه الصناعات و ما تبعها من بنى تحتية متطورة قد أنجز بجهة جندوبة أو أية جهة داخلية (ما عدى معمل الفولاذ ببنزرت – معمل السكر بباحة و معمل الحلفاء بالقصرين و الذين تم تركيزهم في الستينات).
و قد كان هذا الخيار خيارا رسميا واعيا , أراد لهذه الجهة أن تتوقف إلى حين و أن تفرط في إنتاجها و في أبنائها كعمالة رخيصة و أن يتم إفراغها من إنتاجها و مدخراتها إلى أن يتوفر فائض من ميزانية الدولة يمكن أن يخصص لجهة جندوبة . وكان الخطاب الرسمي يؤكد على محدودية الإمكانيات المالية للدولة ، نفس الدولة التي كانت ولازالت تخصص حوالي 80% من الإنفاق العمومي لنفس المناطق التي وقع عليها الخيار السياسي لتكون رافعة للاقتصاد الوطني على أن تبقى المناطق الداخلية حوضا يوفر العمالة قليلة الكلفة .
لقد تم بناء 5 مناطق صناعية ( منذ 1956) بولاية جندوبة غير مجهزة ببنية تحتية ملائمة و على مساحة 61 هكتار أي بمعدل هكتار الواحد كل سنة و للتوضيح نشير إلى أن مجمل مساحة المناطق الصناعية بالشمال الغربي (حوالي 270 هكتار) لا تمثل سوى 1 % من مساحة المناطق الصناعية وطنيا.
و قد توجهت الدولة منذ 1988 و من خلال مجلة الاستثمارات الصناعية التي تم تنقيحها سنة 1994 إلى دعم الاستثمار الصناعي بجهات الداخل من خلال اعتبارها جهات ذات أولوية, غير أن غياب الطريق السيارة و الطرقات الحديثة و كل عناصر البنية التحتية الضرورية بالمدن و التي تشجع على العمل بهذه الجهة كانت غائبة تماما لتبقى مجلة الاستثمار الصناعي حبر على ورق, وقد تحول الخطاب المركزي الرسمي إلى خطاب ضد الجهات التي تعجز عجزت عن استغلال مجلة الاستثمار وما تقدمه من مزايا جبائية ،رغم علمهم أن ما تقدمه مجلة الاستثمار لايعني الكثير عند المستثمرين في ضل غياب البنية التحتية ومناخ الاستثمار الذي يشجع على الاستقرار .
و بالرغم من امتلاء مناطق إقليم تونس و الساحل الشرقي صناعيا و بروز مشاكل ببيئية و حضرية إضافة إلى ما يفرض واقع العولمة من انفتاح و منافسة حادة وهو ما يتطلب من كل الدول البحث عن مكامن القوة و الربح و القدرة التنافسية (وهو ما يعني الالتفات إلى هذه الجهات لاستغلال مكان قوتها التي طالما تغاضوا عنها) فان ترسانة التشريعات لازالت تكبل عملية الاستثمار و تمنع الجهة من اختيار الأراضي و تغيير صبغتها كما تمنع المجلس الجهوي من التعامل المباشر مع المستثمرين و منح تراخيص الانتصاب بالجهة كما تمنعهم كذلك من متابعة إنجاز هذه المشاريع ( في صورة تحققها ) و التحكم في منح الاستثمار الممنوحة لأصحاب هذه المشاريع حتى يتم قطع الطريق على صائدي المنح ، في مخالفة للأمر عدد 457 المتعلق بالصلاحيات الممنوحة للولات ،وهو ما حصل في جندوبة حيث سارع بعض السماسرة بشراء مقاسم صناعية ( على قلتها ) وباعوها بعد سنوات في ضل صمت وتواطئ مركزي وعجز تام على المستوى الجهوي على التصدي لهذه الظاهرة بسبب غياب الصلاحيات .
بل أكثر من ذلك فان الإدارة المركزية تسعى إلى عرقلة أو تحطيم ما ينجز بالجهة و لنا في معمل السكر الذي أنجز في ولاية جندوبة على قاعدة دراسات علمية و بكلفة هامة و قد ساهم هذا المشروع في توفير أكثر من 600 موطن شغل مباشر و توفير دخل جديد لفلاحي الجهة , ثم تفاجأ الأهالي بخطاب جديد اجتاح وسائل الإعلام (من طرف الإدارة و السلط الرسمية) مفاده أولا أن اللفت السكري سيضر أديم الأرض و سيتسبب في خسارة الفلاحين و ثانيا إن كلفة الإنتاج عالية و أنهم يحبذون استيراد مادة السكر على إنتاجها بجندوبة و قد تم في الأخير إعلان إفلاس هذا المعمل و غلقه , ثم عادت نفس الأطراف للحديث عن جدوى هذا المشروع و عن ضرورة إعادة تشغيله و لكن بعد تخصيصه, كما أصبح اللفت السكري فجأة نبتة مفيدة للتداول الزراعي و توفر مادة علفية غنية للحيوانات.
و كذلك الأمر بالنسبة لمعمل لينو لصنع الحليب وهو من اكبر المنشات في القطاع فقد سعت هذه الأطراف لعرقلته و إفلاسه ثم طرحه للبيع من جديد و كذلك معمل الآجر الذي أغلق ثم اعيد فتحه بعد أن تم تحصيصه و بيعه و الأمثلة عديدة في جندوبة و في غيرها من الجهات الداخلية و هي كلها كما يسميها الأستاذ “عادل عرفاوي” مشاريع صفقات مشبوهة”
و لا نرى مستقبلا للصناعة بجندوبة التي تتوفر على مقدرات هامة مثل : المواد إنشائية التي أنجزت في شأنها دراسات علمية وتنفيذية (دون اعتبار المواقع الغير مدروسة) :
– مواقع رخام مدروسة(6 مواقع)- رمل (4 مواقع)- سيليس (4 مواقع) – طين (13 موقعا) – كلس (12 موقعا) – الدولحي (3 مواقع)
– و المواد الفلاحية المنتجة:
لحوم حمراء / ألبان / خضر / غلال / حبوب /سمك : (20 ألف طن إمكانيات إنتاج )
– و مواد غابية :
خشب 47 ألف م2 – خفاف : 60 ألف قنطار(90 % من الإنتاج الوطني) – فقاع : 63 طن – زيت ريحان : 3500 كغ إضافة إلى عدة مواد أخرى غير محصاة .
ستبقى كل هذه الثروات عاجزة عن توفير القيمة المضافة و خلق الثروة و توفير مواطن شغل تقدر بعشرات الآلاف طالما أن سياسة الدولة و تشريعاتها لا تزال تصر رسميا و تشريعيا على شل إرادة أبناء الجهة.
و في انتظار أن تفتك الجهة حريتها فإننا نسجل غلق منجم بوعوان سنة 1991 و فج حسين سنة 1994 و شركة الفجر لصنع و بيع مواد البناء سنة 1990 و شركة صنع الملابس الجاهزة و معمل الصناعات التقليدية لتخسر الجهة أكثر من 50 % من اليد العاملة بالقطاع الصناعي المتوفر بها.
إن التزام الدولة بمعدل 80 % من استثماراته العمومية لخلق صناعة بالعاصمة و الشريط الساحلي طيلة 30 سنة وبناء بنية تحتية متطورة ثم التخلي عن مبدأ التدخل المباشر و دعوة الجهات إلى تحمل مسؤولياتها في جلب الاستثمار المباشر و خلق مواطن الشغل , يعد جريمة في حق أبناء الوطن الذين دفعوا الثمن لتحرير تونس واشتغلوا طيلة ستون سنة لبناء اقتصادها .
قطاع سياحي متعثر:
تمتلك ولاية جندوبة 25 كم من الحدود البحرية و 118 ألف هكتار من الغابات الغنية و المتنوعة و العديد من المواقع الأثرية لها آثار بلطة بوعوان الرومانية و بلاريجيا و شمتو و تبرنق بمعتمدية غار الدماء, إضافة إلى مواقع أخرى بجندوبة الشمالية وواد مليز و فرنانة و قد انطلق النشاط السياحي بها منذ 1901 و تم ترسيم عين دراهم و طبرقة بدليل السياحة (Guide Joane ) و بعض المجلات السياحية المختصة مثل (La Tunisie illustrée و La Tunisie touristique).
و كانت طبرقة و عين دراهم تحتوي 11 وحدة فندقية إلى غاية الستينات منها : نزل الفرنان (1901) و Beau séjour و Bellevue-latour و Les sources ……..
كما كانت عين دراهم تمتلك 4 نزل من الأصناف الأربعة الأولى, عندما كانت الحمامات تملك نزلين و كذلك سوسة نزلين و يذكر الدكتور الهلالي أن الصناعات التقليدية قد صاحبت ظهور السياحة بالجهة حيث تطورت صناعة الزريبة البربرية و الخيزران و الخزف و النقش على الخشب.
و قد استغل أبناء الجهة البنية التحتية المتوفرة في بداية الستينات لبعث عدة مهرجانات دولية في مجال الموسيقى و السينما و الفكر و تحولت طبرقة وعين دراهم طيلة الستينات و السبعينات إلى مقصد قار للموسيقيين و السينمائيين العالميين و كانت موسيقى الجاز و موسيقى العالم شعار الحراك الثقافي بالجهة منذ تلك الفترة .
فماذا لو تطورت الحركة السياحية بالجهة على قاعدة ما توفر في الستينات عندما كانت تونس تستقبل حوالي 150 ألف سائح في السنة ؟.
ماذا لو تطورت البنية التحتية و تم ربط ما بناه أبناء الجهة في طبرقة و عين دراهم بما يتوفر من مواقع أثرية و مسالك سياحية تضم الغابات و السهول الغنية بتضاريسها و عادات سكانها و تقاليدهم.
نقول ماذا لو , لان ما يفرضه منطق النجاعة الاقتصادية الوطنية لم يحصل. بل أن الجهة قد فقدت جل الوحدات الفندقية المذكورة كما فقدت وهجها الثقافي بحكم تردي البنية التحتية و غياب الموارد المالية و خرجت طبرقة و عين دراهم من الأدلة السياحية العالمية التي أصبحت تشترط توفر 10 آلاف سرير لإدراج المناطق المترشحة ضمن قائماتها و هو ما يعني آليا تحول الوجهات السياحية بتونس إلى مناطق أخرى , وهو خيار سياسي مركزي تم الإعلان عنه منذ الستينات .
كما تم تخصيص استثمارات عمومية ضخمة لتجهيز بنية تحتية متطورة لإنشاء النزل و الطرقات السيارة و الطرقات المرقمة و الحدائق و المستشفيات و مدارس التكوين المهني و السياحي و كل المرافق الضرورية لدفع السياحة الشاطئية بسواحل تونس و نابل و سوسة و المنستير و كانت الغاية المعلنة جلب العملة الصعبة بالشكل الأسرع الممكن , و كأن السياحة الشاطئية و الغابية بكل من طبرقة و عين دراهم و التي تمتلك تقاليد عمرها مائة سنة لم تكن لتجلب للدولة عملة صعبة و هي الوحيدة التي كانت تمتلك وحدات فندقية جاهزة و تقاليد ثقافية ذات بعد دولي.
الوضع التنموي البشري و العمراني:
لقد أدت سياسة البلاد الاقتصادية و خياراتها المنحازة حتى على حساب الجدوى الاقتصادية الوطنية إلى تفكيك النسيج الاقتصادي و الاجتماعي لجهة جندوبة و صنعت بها عبر مؤسساتها و ترسانة تشريعاتها أجيالا عاجزة عن الاندماج في سوق الشغل الداخلية و الخارجية و اقتصادا يعجز حتى على المحافظة قيمة ما ينتجه محليا حيث يتم تحويل كل إنتاج الجهة إلى خارج حدودها لتصنيعه , و بنية تحتية غير مهيأة لاستقبال استثمارات جديدة في قطاعات حديثة تشترط توفر مناخ استثمار ملائم يمكن إطاراتها من الاستقرار بالجهة لذلك تسجل معتمديه جندوبة اليوم (وهي المعتمدية الأكثر تطورا عن باقي معتمديات الولاية) مؤشر تنمية قيمته 0.291% وهو ما يضعها في آخر ترتيب معتمديات الجمهورية (رتبة 150 ).
و اللآفت أن هناك العشرات من معتمديات الشمال و الساحل لا تمتلك 10 % مما تمتلكه جندوبة من مقومات التنمية بينما تسجل جندوبة اليوم نسبة بطالة جد مرتفعة في كل معتمدياتها حيث أن المعدل الجهوي 25.6 % كما أن نسبة الأمية في الجهة تقدر ب :32.1 % وصل إلى .545% في معتمدية فرنانة كما يبرزه الجدول التالي.
نسبة الأمية حسب المعتمديات :
م . جندوبة | م. جندوبة الشمالية | بوسالم | طبرقة | واد مليز | عين دراهم | بلطة | عار الدماء | فرنانة |
20.6 % | 30 % | 30 % | 31 % | 35 % | 38 % | 39 % | 40.5 % | 45.5 % |
و قد رصد الأستاذ عادل العرفاوي ارتفاع نسبة الأعباء الاجتماعية من 3.7 % إلى 4.8 % بين سنتي 1974 -1989 بفعل ازدياد عدد العاطلين عن العمل و تكثف الضغط الاجتماعي على القلة من أفراد العائلات الناشطون .
و قد سجلت الدراسات الاقتصادية لنفس الفترة نسبة نمو جهوي تقدر ب 2 % و 1 % في المناطق الريفية و هي معدلات جد هزيلة بالمقارنة بالمعدلات الوطنية التي كانت تفوق ال 5 % في عديد الفترات و هو ما يعني كذلك عدم قدرة اقتصاد الجهة على خلق مواطن شغل و نود أن نشير إلى انه إذا كانت معدلات النمو الوطني تقارب ال 6.5 % بينما جهات مثل جندوبة 2 % فان ذلك يعني , بديهيا أن الجهات المحضوضة كانت تسجل معدلات نمو تفوق ال 8 % و الأكثر ضلما من هذا الواقع الأليم هو أن ممثلي السلطة المركزية يتجاهلون هذا الواقع و يدفعون من خلال خطاباتهم إلى الإيهام بان نسبة ال 5 % هي نسبة عامة حققتها كل جهات البلاد.
و أننا لا نرى غرابة في ما حققته و لاية جندوبة من نسبة نمو متدنية حيث أنها تلقت مثلا استثمارات عمومية بقيمة 1354 مليار و 375 ألف دينار بين سنتي 1974 و 1984 و كان حجمها الديمغرافي يساوي 5.16 % بينما تحصلت و لاية المهدية مثلا على 4364 مليار و 732 الف دينار و كان حجمها الديمغرافي 3.8 % من نسبة السكان الوطنية.
مع العلم أن نسبة من الاستثمار العمومي الذي كان يحال إلى ولاية جندوبة كان يخصص لانجاز مشاريع وطنية (مثل السدود ) و نعتقد أن نسبة النمو بولاية جندوبة لم تتحسن في السنين الأخيرة بل ازدادت سوءا حيث لم نسجل انجاز أي مشروع تنموي هام (على غرار المنطقة السقوية العمومية التي تم احتسابها ضمن قيمة الاستثمارات المذكورة .
و يعد قطاع الماء لصالح للشراب بجندوبة مؤشرا ساطعا على إهمال السلط المركزية لسكان الجهة حيث أن الأرقام الرسمية المعلنة تخفي مغالطة بغيظة للرأي العام و لأبناء الجهة إذ نسجل إلى اليوم وجود أكثر من 220 تجمع سكني ريفي بالجهة لا يتمتعون بالماء الصالح للشراب وإن نسبة الجهوية للتزود بالماء وهي %70.6 تخفي حقيقة أن أكثر من 50 % من هذه النسبة هم سكان يشربون من الحنفيات العمومية و عيون مجهزة من قبل مصالح الهندسة الريفية (وهي مياه غير مطهرة) كما أن هناك نسبة أخرى من السكان يشربون من عيون غير مجهزة و أخيرا فان مصالح وزارة الصحة تؤكد مياه جندوبة الصالحة للشراب تتصف برداءة تركيبتها الفيزيوكيميائية وهو ما يفسر ارتفاع مرض الكلى بالجهة.
كما أن الجهة تشكو من قلة المسالك المحلية و الريفية و الغابية و الفلاحية المعبدة و هي شرط أساسي لنشاط اقتصادي فلاحي طبيعي و كذلك لضمان حركة التلاميذ و الطلبة و ربط المواطنين بالخدمات الصحية و الإدارية المتواجدة بالمرتكز الحضرية خاصة و أن حوالي 72 % من السكان يقطنون بالريف كما أن نسبة الفقر بالجهة تبلغ :
جندوبة | جندوبة الشمالية | بوسالم | بلطة بوعوان | غار الدماء | طبرقة | فرنانة | واد مليز | عين دراهم |
6.5 % | 10 % | 10 % | 10.7 % | 12.2 % | 8.3 % | %14.1 | 10.2 % | 12.2 % |
وعدد العائلات المعوزة التي تبلغ 17767 عائلة .
تشير كلها إلى أن هذه الجهة التي كانت منذ ستين سنة من التهميش المتعمد و إعاقة الحركة الاقتصادية بها قد وصلت إلى حالة العطب الاقتصادي و الاجتماعي تعجز عن مجابهته في ظل افتقادها لأي مقوم من مقومات التنمية الطبيعية و إننا نعتقد أن الحديث عن التمييز الايجابي هو مغالطة جديدة في ضل التشريع الحالي الذي يحكم المخططات التنموية و عملية تمويل الجماعات العمومية المحلية و في ضل وجود اللولبيات بالمصالح المركزية التي تعمل على الحفاظ على مصالحها من خلال التأثير في التوجهات التشريعية ما بعد الثورة.
تعد بلديات جندوبة و بني مطير و غار الدماء و بوسالم و عين دراهم من أقدم البلديات بالبلاد حيث تم بعثها كلها في القرن التاسع عشر و كان يفترض أن تراكم هذه البلديات جملة من البنى التحتية الوظيفية و اللائقة و أن تنتفع بمردودية بالنمو الاقتصادي الوطني لتراجع أمثلتها العمرانية حسب المعايير الحديثة و على قاعدة رؤية تنموية و حضرية تأخذ في حسبانها النمو الديمغرافي للسكان و الحاجة الملحة لتوفير مناطق صناعية و إدارية و فضاءات حياة و ترفيه و نمط عمراني يجعل منها مدن حديثة و قابلة للتطور , غير أن سياسة الدولة رأت أن توزع مساهمتها من المال المشترك على قاعدة ما تجنيه البلديات من جباية وخاصة ما يتم استخلاصه من المؤسسات الصناعية والسياحية إضافة إلى عدد المتساكنين .
و تناست (أي الدولة ) أنها هي من ركزت 90 % من المؤسسات الصناعية و السياحية في جهات دون أخرى, وهو ما حرم بلديات جندوبة من العائدات الضريبية طيلة ستين سنة ثم حرمها من مساهمة الدولة في ميزانيتها (إلا بالنزر القليل ) كما ارتأت سياسة الدولة أن يتولى إدارة هذه المنشات و المصالح الجهوية المؤازرة لها , أشخاص موالون للسلطة و كانت النتيجة ان توسعت المراكز الحضرية في كل الاتجاهات و غلب على مظهرها التريّف و قلة التنظيم و عدم القابلية للتحول الى مراكز حضرية جاذبة أو أقطاب تنموية دافعة لمحيطها.و يعد وضع المراكز الحضرية الكبرى اليوم بجندوبة , عائقا أساسيا أمام جلب الاستثمار و خلق مناخ تنمية متوازن يضمن توفير مواطن الشغل و خلق ديناميكية اقتصادية حقيقية.
د. شكري تيساوي.
المراجع والمصادر.
وثيقة المخطط 1 و 2 و3 : 1962 – 1971 .
شكري التيساوي ،ـأثير المشاكل الاقتصادية والاجتماعية على النتائج التربوية بالوسط الريفي ، شهادة التعمق في البحث ، كلية العلوم الإنسانية ، تونس ، 1991 .
شكري التيساوي : نفس المرجع
تقرير اليوم الدراسي الصحي حول الوضع الصحي العمومي بولاية جندوبة , إعداد نقابة الأطباء و أطباء الأسنان و الصيادلة و الفرع الجامعي للصحة بجندوبة 2014 .
الإحصاء الرسمي لسنة 2014 : المعهد الوطني للإحصاء.
دراسة أعدها ديوان الوطني للمناجم