يقول “ميشيل كولون” وهو صحفي بلجيكي “أن الغرب مجرد حضارة لصوص فان أضحت اسبانيا وفرنسا غنيتان في القرن السابع عشر فذلك لأنهما سرقتا الذهب والفضة من أمريكا اللاتينية …دون دفع أي مقابل …. و على مدى خمسه قرون اجتمعت الدول الغربية على نهب ثروات العالم الثالث ويمكننا ان نرسم جداول لكل البلدان الإفريقية الفقيرة ونوضح من نهبها…”، انتهى كلام “ميشيل كلود”وقد اعترف قبله “جاك شيراك” رئيس فرنسا المتوفى ان اغلب الثروات الفرنسية تتأتى من إفريقيا والدول التي استعمرتها فرنسا وانه على الغربي أن يعترف بذلك وان يسعى إلى التعويض لهذه البلدان عما خسرته طيلة قرون وان يكف هذا الغرب عن العجرفة وإعطاء الدروس إلي الآخرين.
يدفعني هذا الحديث إلى التوقف عند جمله من الظواهر الاجتماعية الموجودة في الدول الغربية وخاصة في الفترة الأخير حيث رأينا جمله من التظاهرات الاجتماعية في كل من ايطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا ودول غربية أخرى تنادي بمراجعه المناويل الاقتصادية قصد الحفاظ عل ى طاقاتها الشرائية ربما نستذكر منها ظاهره السترات الصفراء في فرنسا ثم تحولت إلى سترات حمراء وبيضا ء وبألوان أخرى في عده دول في العالم وهي ظواهر اجتماعية تدل على رفض المواطن العادي ا لغربي الغربي النتائج الحالية للعولمة الاقتصادية والثقافية والتي أسست لها دولهم قصد فتح باقي أسواق العالم أمام منتجاتها، غير أن هذا التوجه له وجهان وجهه الأول في تضخم ثروات الدول أوروبا وقد ظهر وجهه الثاني في العشرية الأخيرة حيث أن بحث رجال الأعمال الغربيين عن الر بح ومزيد من الربح دفع هم إلى نقل منشاتهم الصناعية إلى العديد من بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية ودول إفريقيا حيث يتمتعون بامتيازات جبائية وبعمالة بخسة مقارنه بقيمه العمالة في دولهم وقد تسبب هذا التحول الاقتصادي العالمي في تناقص مواطن الشغل في أوروبا ومما مزاد الأمر تفاقما هو فتح دول أوروبا حدودها لجانب صغير من المنتجات الفلاحية والصناعية بمقتضى الاتفاقيات الدولية وهو ما خلق حاله تنافسية حادة بسبب القدرة التنافسية لمنتجات دول أسيا وإفريقيا بسبب تدني قيمه العمالة عندها وهو ما تسبب في وجود ضغط تنافسي حاد في البلدان الأوروبية يعاني منه كل من المنتج الفلاحي والصناعي وهو ما دفع إلى دخول هذه المجتمعات في صراع بين العمالة الموجودة عندهم والمنظومات الحاكمة بسبب تجميد الأجور والرفع من الجباية مع تنويعها ما حرم المستهلك الفرنسي مثلا، من الحفاظ على نمط حياه استهلاكية في مجال المسكن والملبس والغذاء والثقافة وأسلوب التنقل والعطل،و كان هذا النمط يبدو له من طبائع الأمور. واقدر أن المستهلك الغربي العادي لم يكلف نفسه يوما للسؤال حول مصدر هذه الموارد الضخمة التي تضعها دولهم على ذمتهم في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والعمرانية وزد على ذلك في مجال البحوث العلمية في وهو ما أنتج نهضة اقتصادية وعمرانية وفكرية لا سابق لها غير أن المنطق وقبله التاريخ يعلمنا أن الخمسة قرون التي تحدث عنها الصحفي البلجيكي والرئيس الفرنسي جاك شيراك وغيرهما كثيرون من فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع والسياسيون الموضوعيون أنها حقيقة استعمار مارسته أوروبا الغربية على كل القارات ووفرت لشعوبها بذلك إمكانات هائلة من المواد الأولية والغذائية والبشرية وحتى من المعادن النفيسة إضافة إلى كل المستخرجات من باطن الأرض وصولا إلى البترول في العشريات الأخيرة وقد تواصل امتصاص هذه الثروات بنهم على امتداد 500 سنه تمكنوا من خلالها من رسم وتنفيذ سياسات عمرانية عملاقة وسابقه لزمنها بالمنطق الغربي نفسه وكذلك سياسات تعليمية متطورة وتتوفر على كافه الإمكانات المالية والبشرية والعلمية لتنتج أجيالا من العلماء والمتفوقين إضافة إلى سياسات اجتماعية وصحية سخية ومتطورة وخيارات اقتصادية سخية تجاه رأس المال الوطني الذي تمكن من إنشاء وتطوير صناعات متقدمة تعتمد على عماله وطنية متعلمة وتحظى بمستوى معيشي يتفوق على كل شعوب العالم حيث ازدهرت الفنون بكل أنواعها وصناعه الألبسة الأنيقة والعطورات والمواد الغذائية الفاخرة جدا وتحول نمط عيشهم إلى نمط متفرد مقارنه بالشعوب الأخرى ومتفوقا عليه من حيث المعرفة والذوق الموسيقية والغذائية والقدرة على الإنتاج العلمية والمعرفية بنسق سريع جدا من داخل منطقه أوروبا ذاتها وإنني في هذه المقالة أود لفت الانتباه فقط إلى نقطه واحده هي مسألة نسق التطور وحجمه حيث أنني لا أنكر قدره هذه الشعوب على التطور ولكنني أتساءل فقط هل كان بالإمكان منذ القرن الخامس عشر تاريخ بزوغ الحضارة الغربية في كل المجالات وبقياده الكنيسة أولا ثم الإقطاع ثم البرجوازية إلى آخر الجمهورية الديمقراطية التي نعرفها نحن، هل كان بإمكانه هؤلاء ان يحافظوا على هذا النسق الذي نعرفه اليوم، لو لم يوظف كل إمكانات دول إفريقيا وشعوبها وأموالها وذهبها وكذلك دول شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية .
اعتقد كذلك أنني لا ابخس الأوروبيون حقهم أو قدرتهم على الفعل وعلى التفوق وعلى الإنتاج والمبادئ والإبداع مثل ما فعلت كل الحضارات عبر الزمن حيث تداولت على الحياة و الازدهار، فتره بفترة من الحضارة الصينية القديمة إلى الحضارة الرومانية ثم العربية والإسلامية ثم الغربية مرورا بحضارة الانكاوالأزتاك في أمريكا اللاتينية والهند وغيرها من دول وشعوب العالم، ولكنني اذكر أني اعترض فقط على طبيعة نسق الفعل في دول أوروبا الغربية وأتسال ماذا لو لم يجد رخام “شمتو” من تونس ليزين كاتدرائياته وحديد الجزائر لبناء معلم “توريفال” وقمحه تونس والجزائر والمغرب وكل المواد الإنشائية التي يحتويها تراب المغرب العربي الكبير وكل الطاقات البشرية التي سخرت للعمل مجانا من اجل إنتاج يوجه إلى الشعبة الفرنسية مثلا، ويمكن تعداد الأمثلة على غرار هذا المثال القريب منا لنتحدث عن ايطاليا والبرتغال واسبانيا وبريطانيا وماذا فعلوه في القارات الخمسة او بشعوب القارات الخمسة.
كان يمكن أن نقول انه يتوجب علينا النظر إلى الماضي على انه مادي جامد غير قابل للإلغاء وان ننظر إلى المستقبل بحزم ورغبه في العمل واستغلال الواقع المادي المعاصر لصالحنا قصد توفير الحاجيات المتجددة لشعوبنا لولا تلك العودة القوية في العشرية الأخيرة من قبل مفكرين وسياسيين وفلاسفة من أمثال “ايريك زيمور” و”ميشال أونفر”ي و “آلان مينك”و “فيلكون كروت” ومواطنين عاديين غربيين للطعن في مبادئ كونية ليبرالية وضعوها هم في السنوات الخمسين من القرن الماضي عندما انتبهوا أن عصر الاستعمار المباشر لم يعد ممكنا أي انه أصبح مكلفا فتم الاستغناء عنه وتعويضه بجمله أفكار ومؤسسات تكرس الاستعمار بأشكال معقده لفرض هيمنتهم الاقتصادية على كل العالم وفتح الأسواق أمام منتجاتهم والترويج لقيمهم الليبرالية المتوحشة طيلة سبعين سنه ثم تراهم اليوم بيمينهم وجزء كبير من يسارهم ينتفضون على نفس القواعد التي وضعوها هم، مثل فتح الحدود أمام السلع وحرية تنقل رأس المال وحيادية الدولة وبناء ديمقراطية ليبرالية على النمط الذي صمموه على قياسهم.
وتراهم اليوم يرفضون فتح حدودهم أمام المنتجات الصينية والإفريقية وغير ها ويدعون بإلحاح إلى عوده المنشات الصناعية من بلدان أسيا وإفريقيا إلى أوروبا باستثناء تلك الملوثة منها طبعا،مثلما يتبجح به “ويليام جيل قولد” نادل رئيس صحافيين بلا حدود (الذي طالما قاد تحركات سياسية بتونس باسم الحرية وعولمة التضامن بين الشعوب ) وكأنهم يقولون ليس من حق الشعوب الأخرى أن تتطور وتنتج وترسل ما لديها إلى أسواقهم، وكأنهم يقولون ليس من حق الأجير في هذه البلدان أن يتمتع بعوائد لاحقه أو ربما أن هذه العوائد ستساهم ولو بالقليل في تحسين نمط عيشه ليقترب ولو بضع سنتيمترات من نمط العيش الغربي مع إيماني العلمي بان الوصول إلى ذلك المستوى الاقتصادي يعد صعب إن لم اقل مستحيلا لان الغرب بني اقتصاده على قوه السلاح والاستعمار بينما لا تملك الشعوب الأخرى اليوم كل تلك الموارد التي توفرت للدول الغربية بل هي تعاني من منافسه كونية شرسة وهي لا تستطيع حتى التقاط أنفاسها تحت الضغط الذي يمارسه صندوق النقد الدولية ومنظمه التجارة العالمية ومؤسسات الترقيم الدولية والبنوك الغربية والبورصات العالمية ومع ذلك فإننا بحكم ضعفنا أمام كل هذه المؤسسات التي ابتدعتها الدول الغربية كما ذكرنا،فإننا نقبل بجل الشروط أو كلها أحيانا قصد التعاطي اقتصاديا مع دول الغرب ومن مواقع ضعف لم تجد له الشعوب الضعيفة حلا أو بديلا إلى غاية اليوم وسبب ذلك أو قل احد أسباب ذلك (وهو أهمها في الحقيقة) هو أن النخب الحاكمة هي نتاج استثمار طويل المدى لخلق طابور خامس ينضاف إلى كل العوامل والمؤسسات الدولية المتواجدة ويحرص على مصلحة من درسوهم ودربوهم على حكم شعوبهم التي سيعودون آلية بشرعية وضمانات غربية في أهليتهم للقيادة وهو ما حدث طيلته السبعين سنه التي تحدثنا عنها إما الديمقراطية التي حدثنا عنها الغرب فلا مشكله معها حيث يمكن معالجتها بإشكال ذكية تخرج هذه النخبة في شكل أبطال تتلهف شعوبهم لرؤيتهم وسماعهم والدعاء والتمسح على أعتابهم بفعل إيمانا غبيا بان هؤلاء الأسياد الجدد هم الأكثر كفاءة وعلما ومعرفه بالحياة المتقدمة على شكل الطراز الغربي.
والمشكلة عندنا اليوم هو هذه المفارقة الغريبة بين شعوب حكمت لخمس قرون ثم غيرت أشكال حكمها بابتداع مؤسسات وقواعد خضعت لها الشعوب الأخرى منذ قرن تقريبا ورغم هذا الخضوع ورغم ما يوفره التفوق الاقتصادي والعسكري لهذه الدول فان شعوبها ومثقفها رفضوا في السنوات الأخيرة حتى الهامش الصغير الذي تركته دولهم لشعوب العالم الأخرى،فهم يرون ويرددون (ولعل أشهرهم اليوم “دونالد ترامب” و”ماتيو رانزي” رئيس حكومة ايطاليا السابق و “بوريس جونسون” ر.ح.بريطانيا… )أنه لم يعد مسموحا بهذا الهامش البسيط لأنه يضر بمستوى عيشهم ونمطه والغريب أنهم يتمسكون بالخطابين معا أي أنهم لا زالوا يتدخلون في مصائر الشعوب الأخرى لفرض ديمقراطيتهم ونمط عيشهم والتهليل للقواعد الكونية التي ابتدعوها بل وفرض العقوبات على من يخالفها مع الدعوة في آن واحد إلى عودة رأس المال الوطني الغربي إلى بلدانهم وغلق الحدود أمام عده منتجات ورفض حتى منطق الحرية الفردية التي التي تخالف منطقهم والتي قد تهدد سيادة بلدانهم أو نمط عيشهم وهو ما نراه ينتشر عندنا نحن بتشجيع وتمويل منهم منذ عدة عشريات ويصبح الحديث عندهم في ما يخصنا حديثا شوفينيا ومعاد لقيمهم الكونية.