إن أهم ما يميز هذا الباب من قانون الجماعات العمومية المحلية هو غياب الرؤية والتصور المتكامل للمشروع التنموي الجهوي الذي يفترض فيه أن يكون الرافعة المستقبلية لمنوال تنموي وطني جامع، يعتمد على مبدأ التوازن بين الجهات مع مراعاة الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية , حيث نلمس من خلال دراسة كامل فصول المجلة غياب الآليات القانونية والمؤسسات الضامنة للعمل المشترك بين الجماعات المحلية في الجهة الواحدة، والاستعاضة عن ذلك بإقرار مبدأ التعاون والتضامن والتنسيق الإداري أي الغير ملزم للبلديات كما تبينه كل الفصول المتعلقة بباب العمل التنموي كما ورد بالفصول عدد: 10 و11 و19 و20 و 22 و 42 و 45 و 110 و 269 و 270 و 272 و 274 و293 ،إذ تكررت عبارة «يمكن للجماعات» في صياغة أغلب الفصول.
فقد خص مشروع القانون الجماعة المحلية بكل الصلاحيات الترتيبية الأصلية والمفوضة لها من المركـز وأكّد ضمن الفصل العاشر أن قيام أية مصلحة أو جماعة مقام جماعة أخرى لإنجاز أشغال معينة ناتجة عن تفويضات أو اتفاقيات, «لا ينتج عنه ممارسة إشراف مهما كان نوعه», أي أن قاعدة العمل التنموي ومنطلقه هي البلدية ذات السيادة على مجالها الترابي.
وقد اقتصر مشروع قانون الجماعات المحلية في مجال العمل بين الجماعات المحلية على إحداث بعض الآليات والمؤسسات البلدية لإنجاز الوظائف التنموية مثل إحداث الوكالات الاقتصادية (فصل عدد 75) والشركات العمومية المحلية لاستغلال المرافق العامة ذات الصبغة الصناعية أو التجارية (فصل عدد 99) وإحداث مجامع الخدمات بين الجماعات المحلية (فصل عدد 285 ) ويمكن للبلديات أن تنسحب من الشركات العمومية المشتركة أو مجامع الخدمات إذا لم تجد مصلحة في ذلك.
وتعود السلطة الرقابية على الجماعات المحلية و المؤسسات في ما يتعلق بجدوى عملها وقانونيته إلى مؤسسة الوالي وأمين المال الجهوي والسلطة المركزية دون المرور عبر مؤسسة المجلس الجهوي, الذي أحدثت به طبقا لنفس القانون «لجنة جهوية للتعاون بين البلديات» طبقا للفصل 270 غير أن اللجنة المذكورة ليست لها أية سلطة تقريرية.
وبناءا على ما تقدم يقتضي قانون الجماعات المحلية، إنجاز المخططات التنموية (بما في ذلك المخطط الذي يُعده المجلس الجهوي) على مستوى محلي ويتم عرضه على أمانة المال الجهوي ووالي الجهة طبقا للفصل 102 و 103 ثم يوجه إلى الإدارة المركزية قصد المصادقة ، كما تنجز الجهات والأقاليم أمثلة التهيئة العمرانية بالتنسيق مع المصالح المركـزية طبقا للفصل 109 و تنجز الجهات والأقاليم أمثلتها العمرانية بالتنسيق مع المصالح المركزية كذلك ، طبقا للفصل 110 وحيث أن هذه أمثلة التهيئة العمرانية تخضع لمبدإ الهـرمية (فصل عدد 111) فإن المصالح المركزية تتولى في مرحلة لاحقة التنسيق وجوبا مع المجالس الجهوية والإقليمية (فصل 110) قبل المصادقة على المشاريع المعروضة .
وما يفهم موضوعيا مما تقدم أن عملية إعداد المخططات التنموية وأمثلة التهيئة العمرانية أصبحت تعتمد على حلقتيـن رئيسيتين بل ومُحددتين, وهما المجلس البلدي والسلطة المركزية, حيث تم إخضاع عمليات التحكيم والمقاربة بين البلديات (في ما بينها) وبين الأخيرة والمجالس الجهوية والمجالس الإقليمية إلى سلطة المركز, حيث ينص الفصل 110 على وجوبية استشارة الإدارة المركزية للجهات والأقاليم, أي أن الإدارة المركزية هي التي تستقبل مشاريع المخططات وأمثلة التهيئة العمرانية من الجماعات (كل حد على حده) ثم تقوم بدارستها والمصادقة عليها بعد استشارة الجهات والأقاليم, علما أن الاستشارة لا تلزم من يقوم بها. المؤسسات المتدخلة في عمل المجالس المحلية :
يقترح مشروع مجلة الجماعات العمومية المحلية ، هندسة جديدة، للعمل البلدي تنبني على مجموعة من مؤسسات الإشراف والرقابة أهمها المجلس الإقليمي والمجلس الأعلى للجماعات والهيئة العليا للمالية المحلية على المستوى الإقليمي والوطني وكذلك على الغرفة الجهوية لدائرة المحاسبات والإدارة الجهوية للمحكمة الإدارية وأمانة المال الجهوي ووالي الجهة في صيغته الجديدة (اللامحورية)، ويُعد إحداث هذه المؤسسات عموما خطوة ايجابية لدعم اللامركزية في الجهات لو لم يقع التخلي عن الجهة (ممثلة في مجلسها الجهوي) كحلقة ربط بين المحلي والإقليمي والوطني حيث سيتحتم على البلديات أن تعالج ملفاتها الإدارية والتنموية مع المؤسسات المذكورة باستقلالية تامة عن باقي بلديات الجهة ،على الرغم من أنه ،وباستثناء بعض الملفات التقنية الخاصة بكل بلدية على حده فإن أغلب ملفات التنمية والعمل الإداري والتصرف المالي والتخطيط العمراني والعناية بالبعد البيئي هي ملفات مُشتركة كلها أو في جزء هام منها بين بعض بلديّات الجهة الواحدة أو كلّها، وهو ما سينجر عنه موضوعيا تنازع مصالح بين البلديات حول تسيير المرافق العمومية أو استغلالها، إضافة إلى ما سيبرز من مشاكل تخص تحديد طبيعة المشاريع التنموية وضبط الأولويات بين البلديات ورزنامة تنفيذها، وبالرغم من أيماننا المبدئي بكفاءة مؤسسات دائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية وأمانة المال فإن طبيعة الخلافات والمشاكل التي ستثار لن تحسم بالرجوع للنصوص القانونية (الغائبة حاليا) بقدر ما يحتاج حلها إلى قيادة جهوية تعتمد التفاعل الجماعي ضمن مؤسسة جهوية تستمد شرعيتها وقوتها من السلطات المفوضة إليها ولقوة القيادة الجهوية ممثلة في المجلس الجهوي (الذي يتوجب دعم دوره الجهوي) بما يتوفر له من كوادر وخبرات، وقوة إشعاع تمكنه من التصدي لهذه المشكلات وحسمها في آجال سريعة بينما ستضطر المؤسسات القضائية المعنية إلى تطبيق آجال التقاضي والطعن في الأحكام والاستئناف علاوة على إمكانية عدم انصياع المجالس البلدية لأحكامها مُحتمية بشرعيتها الانتخابية، أما بالنسبة لمؤسسة الوالي وهي مؤسسة لامحورية تمثل الدولة في جهتها فإنها تلعب كذلك، دورا رقابيا على الجماعات العمومية المحلية وهي الجهة التي يمكنها أن تثير الدعوى أمام الأجهزة الرقابية المذكورة أو الاعتراض على بعض المشاريع إضافة إلى مراقبة قانونية التصرف الإداري والمالي للجماعات، ومن المرجح موضوعيا أن تكون هذه المؤسسة ضعيفة أولا بحكم انفصالها عن الممارسة الميدانية وثانيا بحكم ضعف الصلاحيات المسندة إليها إذ أنها تكتفي بإثارة الدعاوي وتقديم الاعتراضات سواء أمام أمانة المال الجهوي أو المجلس الأعلى للجماعات أو الحكومة المركزية ولكنها لا تملك سلطة القرار.
و يضاف إلى كل هذه العوائق القائمة موضوعيا، طبيعة المرحلة التي تعيشها تونس، التي تتميز بالرغبة الجامحة لدى الأفراد والمجموعات في الإفلات من قبضة المركز وكل ما يمثله، وتمسكهم بإنفاذ إراداتهم من خلال المؤسسات المُنتخبة ومنظمات المجتمع المدني وهي ظاهرة اجتماعية لا يُنتظر أن تخمد في الأمد المتوسط أو البعيد بفعل توفر الشروط الموضوعية لممارسة هذه الإدارات (ولو بجموح أحيانا) بفضل ما وفره دستور سنة 2014 من ضمانات دستورية للحريات الفردية والجماعية علاوة على مبدأ حرية التدبير للجماعات العمومية.
لكل هذه الأسباب نعتقد أن مؤسسة الوالي ،وهي واحدة من المؤسسات اللامحورية الجهوية التي سيتم إحداثها،ستكون مؤسسة ضعيفة أمام الجماعات العمومية بكل أصنافها وستتحول إلى عبء على الإدارة الجهوية بحكم افتقادها لدور حقيقي يمكن أن تؤديه ،وهي في النهاية تكرار لتجربة فرنسية ابتدأت منذ سنة 1800م لما كانت البلديات حديثة العهد وكانت المؤسسات اللامحورية بتلك المناطق تخطو خطواتها الأولى في ظل غياب المجالس الجهوية (التي ستُحدث بعد ذلك التاريخ بـ 172 سنة ) فكانت الحاجة لابتداع آلية تنسيق ورقابة تمثل الدولة وتسهر على انسجام العمل بين المجالس البلدية وكذلك الإدارات اللامحورية والأمنية وهي مؤسسة الوالي .
وتنسحب هذه المنهجية في إعداد وإقرار أمثلة التهيئة العمرانية على برامج الاستثمار البلدي (فصل 156) والمخططات والبرامج التنموية وكذلك البرامج الخصوصية مثل البـرنامج الجهوي للتنمية (فصل 172) وبـرنامج الحضائر الجهوية ومشاريع تهيئة وتهذيب الأحياء, حيث يتم إعداد المخططات والبرامج من قبل مجالس الجماعات المنتخبة دون أن تكون هناك آلية مُلزمة لكل المجالس البلدية داخل الجهة الواحدة قصد توحيد التصور ثم تتم مراجعة هذه المخططات والبرامج من قبل أمانة المال الجهوي ومؤسسة الوالي وهي مؤسسات قطاعية لا تمتلك قواعد البيانات والخبرة الضرورية بالجهة لفرض مبدأ الانسجام والتكامل بين بلدياتها ثم يتم رفع هذه المخططات والبرامج إلى الإدارة المركزية التي تعمل على استشارة المجالس الإقليمية والمجلس الأعلى للجماعات التي لا تمتلك بدورها نفس الشروط المذكورة آنفا وبالتالي فإنها لا تمتلك القدرة على الاعتراض أو تقديم الإضافات لينحصر الأمر موضوعيا بين البلديات والإدارة المركزية, فنُعيد بذلك رسم تجربة دامت ستين سنة في تونس, آلت فيها الهيمنة دائما للمركز على حساب الجهات و خاصة الجهات الضعيفة ماديا وبشريا وأنتجت كل أسباب التفاوت الجهوي في ظل إرادة سياسية تسعى إلى إدارة البلاد بأقل كلفة ممكنة، فأنتجت لوبيات إدارية مركزية تحذق التلاعب بالثغرات القانونية و استغلال ضعف الإدارة الجهوية لتعلن أن كل ما ينجز يجب أن ينبني على الشراكة مع الجهات، بينما يعتمد المركز على تعقيد البناء الإداري البيروقراطي ومسالكه الملتوية ليُعيد الأمر إليه مهما كانت قدرة الجهة على تشخيص وضعها التنموي أو على تقديم الحلول المبنية على تصورات موضوعية استجابة للمشكلات الحقيقية لواقعها ، وبعد طول هذه التجربة السلبية وما راكمته المجالس الجهوية من خبرة مريرة في معرفة واقعها وتشخيص مشكلاته والبحث عن إجابات معقدة لأسئلة أكثر تعقيدا كان يطرحها المركز, قصد افتكاك القليل المُمكن مما كانت تحتاجه الجهات, يبدو أن مشروع قانون الجماعات المحلية الحالي يسعى إلى إعادة هذه التجربة مع المجالس البلدية من خلال القفز على حلقة المجالس الجهوية (التي أصبحت قادرة ولو نسينا على التصدي لمشكلاتها التنموية) والتعامل مع المجالس البلدية التي تفتقر للعنصر البشري والخبرة في تشخيص الواقع التنموي وخاصة في ظل تعميم النظام البلدي إضافة إلى عدم تعود البلديات على العمل مباشرة مع الإدارة المركزية حيث كانت كل البلديات ( ما عدى عواصم البلديات) تخضع لإشراف الولاة ويشرف على عملها الكتاب العامون للولايات ودوائر البلديات التي كانت ولا زالت توفر التأطير (ولو نسبيّا) والإسناد المعرفي والإداري للمجالس البلدية مُعوضة بذلك عن النقص الحاصل في العنصر البشري والمعرفي لبلديات الجهة، غيرأنّ مشروع القانون الحالي يسمح بما وضعه من تصور للعمل الإداري على المستوى المحلي والجهوي ، بإعادة تلك التجربة الصعبة وإعاقة التطور الطبيعي للتنمية في الجهات ، ويُظهر الجدولين التاليين غياب المجلس الجهوي في إعداد التصورات والبرامج التنموية والإدارية بالبلديات وكذلك عن مراقبتها: