السيد رئيس جمهورية فرنسا ايمانوال ماكرون.
أتابع منذ أسابيع الحملة السابقة لأوانها للانتخابات الرئاسية في فرنسا لسنة 2022 واستمعت إلى العديد من المتدخلين السياسيين والصحافيين والفلاسفة. وأريد أن أصدقك القول لقد آمنت منذ نعومة أظفاري بأن الغرب لم يتخلى عن مركزيته حتى لا أقول عنصريته تجاه باقي الشعوب وأنه يضمر دائما عقدة تفوق غير مُبررة تجاهنا ولكنني لم أكن أجادل في ذلك كثيرا حتى لا أتهم بأنني من أصحاب نظرية المؤامرة.
ولكنني أصدقك القول مرة أخرى أن ما استمعت إليه في الأيام الأخيرة من عدة أشخاص مؤثرين في فرنسا مثل ايريك زيمور الصحفي الذي أصبح يحتل المرتبة الثانية في سباق سبر الآراء للانتخابات الرئاسية وكذلك من ايريك سيوتي ولورون فوكيي ونادين مورانو ممثلي اليمين الجمهوري والذين صاروا يتنافسون مع مارين لوبان زعيمة اليمين المتشدد في تشبثهم بمفهوم الثقافة الفرنسية الصافية و ومقولة العرق البيض وضرورة الفصل بين الفرنسيين الأصليين وباقي الفرنسيين من عرب وأفارقة الذين يعيشون هناك منذ عشرات السنين ويحملون الجنسية الفرنسية بدعوى أنهم يحملون ثقافة أو دين لا يمكنه أن يتطابق مع الحداثة. وأصبحت هناك مجاهرة بنظرية التبديل أي تبديل عرق بعرق آخر ويدعو أصحاب هذه النظرية إلى ضرورة وقف الهجرة وطرد كل من لا يرون في سلوكه تطابقا مع ما يراه السيد زيمور أو غيره ممن يدافعون عن نمط حياة لا تشوبه شائبة ويدعون إلى تطهير الأراضي الفرنسية من البرابرة الجدد وأعترف لك سيدي الرئيس أنني ورغم معرفتي السابقة لهذه الآراء ،فقد صدمت لما صرت استمع له كل ليلة بشكل مباشر ومن أشخاص متنوعون في توجهاتهم الفكرية .وقد أنضاف إلى كل هذا ما أقدمت عليه دولتكم من تدخل لا يخلو من صلف في ما يحدث عندنا.
،سيدي أنا مواطن من أعماق هذا الوطن ليست لي مصالح أخاف عليها حتى أنحاز لمن يدافع على مصالحي ولكنني أعتقد أنني أمثل ملايين التونسيين الذين اختاروا رئيس دولتهم بحرية وقبلوا بخياراته على غموض آفاق مستقبلنا بحرية كذلك، ونحن مسئولون عن هذه الخيارات ،وإذا كنتم تعتقدون إلى اليوم أنكم تمتلكون الأحقية الأخلاقية والسياسية للتدخل في خياراتنا فدعني أذكرك بكل احترام بماضي فرنسا معنا ومع عديد الشعوب الأخرى ،لعلّ في ذلك عبرة
يقول “ميشيل كولون” وهو صحفي بلجيكي “إن الغرب مجرد حضارة لصوص فان أضحت اسبانيا وفرنسا غنيتان في القرن السابع عشر فذلك لأنهما سرقتا الذهب والفضة من أمريكا اللاتينية …دون دفع أي مقابل …. و على مدى خمسه قرون اجتمعت الدول الغربية على نهب ثروات العالم الثالث ويمكننا ان نرسم جداول لكل البلدان الإفريقية الفقيرة ونوضح من نهبها…”، انتهى كلام “ميشيل كولون”وقد اعترف قبله “جاك شيراك” رئيس فرنسا المتوفى أن اغلب الثروات الفرنسية تتأتى من إفريقيا والدول التي استعمرتها فرنسا وانه على الغربي أن يعترف بذلك وان يسعى إلى التعويض لهذه البلدان عما خسرته طيلة قرون وان يكفوا عن العجرفة وإعطاء الدروس للشعوب الأخرى.
يدفعني هذا الحديث إلى التوقف عند جملة من الظواهر الاجتماعية الموجودة في الدول الغربية وخاصة في الفترة الأخير حيث رأينا جملة من التظاهرات الاجتماعية في كل من ايطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا ودول غربية أخرى تنادي بمراجعه المناويل الاقتصادية قصد الحفاظ على طاقاتها الشرائية ربما نستذكر منها ظاهرة السترات الصفراء في فرنسا ثم تحولت إلى سترات حمراء وبيضاء وبألوان أخرى في عدة دول في العالم وهي ظواهر اجتماعية تدل على رفض المواطن الغربي العادي للنتائج الحالية للعولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي أسست لها دولهم قصد فتح باقي أسواق العالم أمام منتجاتها، غير أن العولمة لها وجهان، وجهه أول يتمثل في تضخم ثروات دول أوروبا وقد ظهرالوجه الثاني في العشرية الأخيرة حيث أن بحث رجال الأعمال الغربيين عن الربح ومزيد من الربح دفعهم إلى نقل منشاتهم الصناعية إلى العديد من بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية و إفريقيا حيث يتمتعون بامتيازات جبائية وبعمالة بخسة مقارنة بقيمة العمالة في دولهم وقد تسبب هذا التحول الاقتصادي العالمي في تناقص مواطن الشغل في أوروبا.
ومما مزاد الأمر تفاقما هو فتح دول أوروبا حدودها للمنتجات الفلاحية والصناعية الأجنبية (ولو بهامش صغير) بمقتضى الاتفاقيات الدولية المبرمة وهو ما خلق حالة تنافسية حادة بسبب القدرة التنافسية لمنتجات دول أسيا وإفريقيا بسبب تدني قيمة العمالة عندها وهو ما خلق صراعا بين العمالة الغربية والمنظومات الحاكمة بسبب تجميد الأجور والرفع من الجباية مع تنويعها ما حرم المستهلك الغربي ، من الحفاظ على نمط حياته الاستهلاكية في مجال المسكن والملبس والغذاء والثقافة وأسلوب التنقل والعطل،وكان هذا النمط يبدو لهم من طبائع الأمور.
وأقدر أن المستهلك الغربي العادي لم يكلف نفسه يوما السؤال حول مصدر هذه الموارد الضخمة التي تضعها دولهم على ذمتهم في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والعمرانية و في مجال البحوث العلمية وهو ما أنتج نهضة اقتصادية وعمرانية وفكرية لا سابق لها،غير أن المنطق وقبله التاريخ يعلمنا أن الخمسة قرون التي تحدث عنها الصحفي البلجيكي والرئيس الفرنسي جاك شيراك وغيرهما كثيرون من فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع والسياسيون الموضوعيون أنها حقيقة استعمار مارستها أوروبا الغربية على كل القارات ووفرت لشعوبها بذلك إمكانات هائلة من المواد الأولية والغذائية والبشرية وحتى من المعادن النفيسة إضافة إلى كل المستخرجات من باطن الأرض وصولا إلى البترول في العشريات الأخيرة.
وقد تواصل امتصاص هذه الثروات بنهم على امتداد 500 سنة تمكنوا من خلالها من رسم وتنفيذ سياسات عمرانية عملاقة وسابقة لزمنها بالمنطق الغربي نفسه، وكذلك سياسات تعليمية متطورة وتتوفر على كافة الإمكانات المالية والبشرية والعلمية لتنتج أجيالا من العلماء والمتفوقين إضافة إلى سياسات اجتماعية وصحية سخية ومتطورة وخيارات اقتصادية في خدمة رأس المال الغربي الذي تمكن من إنشاء وتطوير صناعات متقدمة تعتمد على عمالة وطنية متعلمة وتحظى بمستوى معيشي يتفوق على كل شعوب العالم حيث ازدهرت الفنون بكل أنواعها وصناعة الألبسة الأنيقة والعطورات والمواد الغذائية الفاخرة جدا وتحول نمط عيشهم إلى نمط متفرد مقارنة بالشعوب الأخرى ومتفوقا عليها من حيث المعرفة والقدرة على الإنتاج العلمي والمعرفي بنسق سريع جدا.
وإنني في هذه المقالة أود لفت الانتباه فقط إلى نقطة واحدة هي مسألة نسق التطور وحجمه حيث أنني لا أنكر قدرة هذه الشعوب على التطور ولكنني أتساءل فقط هل كان بالإمكان منذ القرن الخامس عشر تاريخ بزوغ الحضارة الغربية في كل المجالات وبقيادة الكنيسة أولا ثم الإقطاع ثم البرجوازية إلى آخر الجمهوريات الديمقراطية التي نعرفها نحن، هل كان بإمكان هؤلاء أن يحافظوا على هذا النسق الذي نعرفه اليوم، لو لم يوظفوا كل إمكانات دول إفريقيا وشعوبها وأموالها وذهبها وكذلك دول شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية .
أؤكد كذلك أنني لا أبخس الأوروبيون حقهم أو قدرتهم على الفعل وعلى التفوق وعلى الإنتاج والإبداع مثل ما فعلت الحضارات الأخرى عبر التاريخ حيث تداولت على الحياة و الازدهار، فتره بفترة من الحضارة الصينية القديمة إلى الحضارة الرومانية ثم العربية والإسلامية ثم الغربية مرورا بحضارة الانكا والأزتاك وغيرها من دول وشعوب العالم، ولكنني أذكر أنني اعترض فقط على طبيعة نسق الفعل في دول أوروبا الغربية وأتساءل ماذا لو لم يتوفر رخام “شمتو” من تونس ليزينوا به كاتدرائياتهم وحديد الجزائر لبناء معلم “توريفال” وقمح تونس والجزائر والمغرب وكل المواد الإنشائية التي يحتويها تراب المغرب العربي الكبير وكل الطاقات البشرية التي سخرت للعمل مجانا من أجل إنتاج يوجه إلى الشعب الفرنسي مثلا، ويمكن تعد عرض أمثلة أخرى مثل ايطاليا والبرتغال واسبانيا وبريطانيا وما فعلوه بشعوب القارات الخمسة.
كان يمكن أن نقول أنه يتوجب علينا النظر إلى الماضي على أنه مادي جامد غير قابل للإلغاء وأن ننظر إلى المستقبل بحزم ورغبة في العمل واستغلال الواقع المادي المعاصر لصالحنا قصد توفير الحاجيات المتجددة لشعوبنا لولا تلك العودة القوية في العشرية الأخيرة من قبل مفكرين وسياسيين وفلاسفة من أمثال الصحفي “ايريك زيمور” و الفلاسفة مثل “ميشال أونفري” و “آلان مينك”و “فيلكون كروت” وغيرهم من المفكرين والساسة كثيرون عندما لمسوا مساوئ العولمة التي روجوا لها، للطعن في مبادئ كونية ليبرالية وضعوها هم في السنوات الخمسين من القرن الماضي عندما انتبهوا أن عصر الاستعمار المباشر لم يعد ممكنا أي انه أصبح مكلفا، فتم الاستغناء عنه وتعويضه بجملة أفكار ومؤسسات تكرس الاستعمار بأشكال معقدة لفرض هيمنتهم الاقتصادية على كل العالم وفتح الأسواق أمام منتجاتهم والترويج لقيمهم الليبرالية المتوحشة طيلة سبعين سنة ثم تراهم اليوم بيمينهم وجزء كبير من يسارهم ينتفضون على نفس القواعد التي وضعوها هم، مثل فتح الحدود أمام السلع وحرية تنقل رأس المال وحيادية الدولة وبناء ديمقراطية ليبرالية على النمط الذي صمموه على قياسهم.
وتراهم اليوم يرفضون فتح حدودهم أمام المنتجات الصينية والإفريقية وغيرها، ويدعون بإلحاح إلى عودة المنشات الصناعية من بلدان آسيا وإفريقيا إلى أوروبا باستثناء تلك الملوثة منها طبعا،مثلما يتبجح به المحامي ويليام جيل قولد نادال، رئيس جمعية صحافيين بلا حدود (الذي طالما قاد تحركات سياسية بتونس باسم الحرية وعولمة التضامن بين الشعوب ) وكأنهم يقولون ليس من حق الشعوب الأخرى أن تتطور وتنتج وترسل ما لديها إلى أسواقهم، و ليس من حق الأجير في هذه البلدان أن يتمتع بعوائد لاحقة أو ربما أن هذه العوائد ستساهم ولو بالقليل في تحسين نمط عيشه ليقترب ولو بضع سنتيمترات من نمط العيش الغربي، مع إيماني العلمي بأن الوصول إلى ذلك المستوى الاقتصادي يُعد صعبا إن لم اقل مستحيلا لان الغرب بني اقتصاده على قوة السلاح والاستعمار بينما لا تملك الشعوب الأخرى اليوم كل تلك الموارد التي توفرت للدول الغربية بل هي تعاني من منافسة كونية شرسة وهي لا تستطيع حتى التقاط أنفاسها تحت الضغط الذي يمارسه صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات الترقيم الدولية والبنوك الغربية والبورصات العالمية ومع ذلك فإننا بحكم ضعفنا أمام كل هذه المؤسسات التي ابتدعتها الدول الغربية كما ذكرنا،فإننا نقبل بجل الشروط أو كلها أحيانا قصد التعاطي اقتصاديا مع دول الغرب ومن مواقع ضعف لم تجد له الشعوب الضعيفة حلا أو بديلا إلى غاية اليوم وسبب ذلك أو قل أحد أسباب ذلك (وهو أهمها في الحقيقة) هو أن النخب الحاكمة هي نتاج استثمار طويل المدى (من قبل الغرب ) لخلق طابور خامس يضاف إلى كل العوامل ويحرص على مصلحة من درسوهم ودربوهم على حكم شعوبهم التي سيعودون آليها بشرعية وضمانات غربية على قدرتهم على القيادة وهو ما حدث طيلة السبعين سنة التي تحدثنا عنها أما الديمقراطية التي حدثنا عنها الغرب فلا مشكلة معها حيث يمكن معالجتها بإشكال ذكية تخرج هذه النخبة في شكل أبطال تتلهف شعوبهم لرؤيتهم وسماعهم والدعاء لهم والتمسح على أعتابهم بفعل إيمانا غبيا بأن هؤلاء الأسياد الجدد هم الأكثر كفاءة وعلما ومعرفه بالحياة المتطورة على الطراز الغربي.
والمشكلة عندنا اليوم هو هذه المفارقة الغريبة بين شعوب حكمت لخمس قرون ثم غيرت أشكال حكمها بابتداع مؤسسات وقواعد خضعت لها الشعوب الأخرى منذ قرن تقريبا ورغم هذا الخضوع ورغم ما يوفره التفوق الاقتصادي والعسكري لهذه الدول فان شعوبها ومثقفها رفضوا في السنوات الأخيرة حتى الهامش الصغير الذي تركته دولهم لشعوب العالم الأخرى،فهم يرون ويرددون (ولعل أشهرهم اليوم “دونالد ترامب” و”ماتيو رانزي” رئيس حكومة ايطاليا السابق و “بوريس جونسون” ر.ح.بريطانيا… )أنه لم يعد مسموحا بهذا الهامش البسيط لأنه يضر بمستوى عيشهم ونمطه.
والغريب أنهم يتمسكون بالخطابين معا أي أنهم لا زالوا يتدخلون في مصائر الشعوب الأخرى لفرض ديمقراطيتهم ونمط عيشهم والتهليل للقواعد الكونية التي ابتدعوها بل وفرض العقوبات على من يخالفها مع الدعوة في آن واحد إلى عودة رأس المال الوطني الغربي إلى بلدانهم وغلق الحدود أمام منتجات الشعوب الأخرى ورفض حتى حرية الرأي الفردية التي تخالف منطقهم أو نمط عيشهم ويرون فيه تهديدا لسيادة دولهم بينما يواصلون تشجيع نفس نمط الحريات عندنا ويعتبرون مجرد الاحترازات حول البعض منها حديثا شوفينيا ومعاد لقيمهم الكونية.
نحن أصحاب شهادات ملكية لكل الحقائق الكونية، هذه القناعة المبطنة والتي يتم الإعلان عنها من حين لآخر بنبرة تحمل الكثير من العجرفة عندما يتصدى أحد رؤساء الدول الغربية لمشكلة لا تخصه في الشرق الأوسط أو الأدنى أو غيرهم ويعطي دروسا في الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في إبداء الرأي وتقرير المصير، و ينسب كل هذه الأفكار بشكل آلي للإنسانية جمعاء وهو يوحي بذلك إلى أن مجمل القيم والمبادئ هي جملة من البديهيات الكونية التي تتفق عليها كل شعوب الأرض بينما نعلم نحن أن شعوب الأرض المقصودة هي الحكومات الغربية التي تنقلب بوقاحة على هذه القيم عندما يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية، وهو أسلوب آخر تمت معالجته إلى حد الإتقان بحيث لا يتبادر حتى إلى ذهن أكثر المثقفين فطنة أن يتساءل عن ماهية الشعوب التي تتبنى المبادئ التي يتحدث عنها السيد ماكرون أو بوريس جونسون أو دونالد ترامب أو غيرهم ممن يتزعمون هذا العالم ،تدفعهم رغبة قومية استعمارية مدفونة تحت أطنان من المساحيق اللغوية والفلسفية والدعائية لتأسيس نظام كوني واحد هو النظام الليبرالي الديمقراطي على الشاكلة التي اختارها مفكريهم على مثل صامويل هنتنجتون و نعوم تشو مسكي وقياداتهم السياسية والاقتصادية والأمنية وهم كثيرون.