قبل محاولة تشخيص وضع العمل الجمعياتي والتوقف عند مواطن القوة والتعثر في حالات عديدة بسبب قلة التجربة والمعرفة بهذا المجال وبالمفاهيم التي تؤطره ،دعونا نعود أولا، إلى ما قبل سنة 2011 التي عرفت تحولا اجتماعيا عنيفا في مضمونه السوسيولوجي والثقافي خاصة، رافقه عنف مادي ونفسي، لازال يطفو على السطح من حين لآخر بفضل الحاضنة الثقافية والشعبية الموجودة في تونس.
لقد اضطر عدد هام جدا من الجمعيات الموسيقية والمسرحية والرياضية إلى تجميد نشاطها منذ السنوات الثمانين من القرن الماضي بسبب انعدام الدعم المادي ،حيث رغم ضعف الحالة الاقتصادية للبلاد في تلك المرحلة،كانت هناك حركة ثقافية ورياضية هامة في الجهات تؤثثها نوادي سينما الأسبوعية والفرق الموسيقية والمسرحية والمهرجانات السنوية والموسمية والمعارض والفرق الرياضية وفرق الرياضات الفردية وقد اندثرت جميعها ليتحول واقع الجهات إلى حالة جمود وتصحر خطيرين وهو ما يفسر ربما،حالة الجهل والسطحية الفكرية التي تطغى على واقعنا اليوم ، وهذا موضوع يستحق دراسة مستقلة لذلك نعود لموضوع المقالة.
تصرّ كل المواقع الرسمية ومنها المعهد الوطني للإحصاء على احتساب كل تلك الجمعيات المنحلة ضمن الجمعيات الناشطة حاليا وهو ما يعني حتمية مراجعة هذه الإحصائيات التي يتم اعتمادها حاليا وبشكل رسمي، حيث إنه من الضروري التأكيد على أن عدد الجمعيات الحقيقي هو أقل بكثير مما تقدمه الأجهزة الرسمية، ودليل ذلك الحديث عن وجود 4586 جمعية مدرسية (وهي أرقام رسمية سابقة لسنة 2011 ) في حين أن معاينة الواقع الميداني لمؤسساتنا التربوية يبين أن حوالي 10% فقط من هذه الجمعيات لا تزال تمارس نشاطا حقيقيا وقانونيا ،وكذلك الأمر بالنسبة للجمعيات التنموية (التي أُحدثت بمقتضى قرارات وزارية قبل 2011 ) ،إذ نعلم بحكم المعايشة والملاحظة الميدانية أنه لم يعد هناك وجود لحوالي 2200 جمعية باستثناء القليل منها والتي تهتم بتوزيع الماء الصالح للشراب، واللجان الجهوية للثقافة والجمعيات الثقافية بكل أصنافها، مع التذكير أنه لا يمكن اعتبار هذه المؤسسات جزءا من المجتمع المدني بما أن السلطة السياسية هي التي اتخذت قرار إنشاءها وهي بالتالي لا تعدو أن تكون سوى آلية من آليات التحكم والتعديل الرسمي للسلطة الحاكمة.
بينما شهدت السنوات 2011 وما بعدها عودة مكثفة إلى الفعل السياسي والجمعياتي ، من خلال استعادة الأجيال المتعاقبة انتماءاتها الإيديولوجية التي تبنتها خلال حياتها التلمذية والطلابية في السنوات الستين وإلى غاية السنوات الثمانين وتم تكوين أحزاب وحركات سياسية انبنت على الانتماءات الفكرية القديمة سواء كانت قومية أو ماركسية أو إسلامية، بنفس المنهجيات والمضامين والأحلام فكانت الحوارات الفكرية امتدادا لحوارات طلابية عُلقت في فترة الرئيس بن على وهو ما يعني عودة الرغبة الطبيعية في الفعل ولاحظنا منذ ذلك الحين البحث الجماعي عن عقد اجتماعي ينظم الحياة المشتركة.
كما سجلنا ارتفاعا في عدد الجمعيات المدنية في كل المجالات، وقد سُمح رسميا بتأسيس جمعيات على أساس القانون عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011،ورغم التخبط الحاصل في ضبط عدد هذه الجمعيات من طرف رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية وبعض المراكز المختصة ، فإن آخر الإحصائيات المتوفرة إلى غاية جويلية 2019 و التي أصدرها مركز إفادة المحدث بمقتضى الأمر عدد 688 لسنة 2000 مؤرخ في 05 ماي 2000 و الذي يهتم برصد عمل الجمعيات والمساهمة في تكوين أعضائها والقيام بعمليات الاستشراف ،ويبلغ عدد الجمعيات 22734 جمعية وأكثر من 24 ألف جمعية في سنة 2021 ،وهي تتوزع (حسب نفس المصدر) إلى :7.5% جمعيات علمية و %11.2 جمعيات رياضية و 21.4% جمعيات تربوية (مدرسية) و 11.2% جمعيات خيرية و%18.6 جمعيات ثقافية إضافة إلى الجمعيات الحقوقية والمواطنة والبيئة والنسائية والشبابية وتمثل مجتمعة حوالي 12% .
ونلاحظ أن هذه الجمعيات تتوزع على جهات البلاد بشكل غير متناسق حيث تمثل نسبة الجمعيات في ولاية تونس 19.9% وهي بذلك تحتل المرتبة الأولى وبهامش كبير بالنسبة لبقية الولايات حيث نلاحظ أن أقرب الولايات لولاية تونس هي جهة صفاقص بنسبة 7.9 %ونابل بنسبة 6.2 % و أريانة بنسبة 5%وفي المرتبة الثالثة نجد ولاية سوسة بنسبة 4.7% والمنستير بنسبة 4.1% وبن عروس بنسبة 4.1 %وبنزرت بنسبة 4.1 %أما باقي الولايات فتتراوح نسبة تواجد الجمعيات بها بين 1 و 3% من المجموع الوطني .
ويمكن فهم هذا التوزيع الجغرافي للأنشطة المجتمعية على تونس العاصمة تحديدا، ثم بالمراكز العمرانية الكبرى مثل ولاية صفاقص ونابل ثم سوسة والمنستير بتوفر مقدرة شرائية مقبولة ووضعيات اجتماعية مريحة مقارنة بباقي الجهات، ،كما أنها تتوفر على نسبة هامة من المتعلمين وبُنى تحتية تشجع على العمل الثقافي والاجتماعي التطوعي، بينما لازالت باقي الجهات تتخبط وسط نسب فقر عالية تُفقد الفرد الرغبة والقدرة على المساهمة المدنية. وعندما ندقق في هذه الإحصائيات نرى أن أغلب الجمعيات التي تنشط بهذه المدن تهتم بالنشاط الثقافي والعلمي والرياضي ،إذ توجد بولاية تونس 743 جمعية علمية و795 جمعية ثقافية و381 جمعية رياضية وقد سجلنا نسب مماثلة لعدد الجمعيات باختصاصاتها بولايات الصف الثاني المذكورة،بينما تتضاءل هذه الأرقام إلى حدود 7 جمعيات علمية بقبلي و7 بتطاوين و4 بالكاف و33 جمعية بزغوان و 303 جمعية ثقافية بكل الشمال الغربي (رغم استغرابنا لهذا الرقم دون التشكيك في أرقام مركز إفادة ولكننا لا نرى أثرا ماديا لهذا الرقم ) ،وإذا علمنا أن نوعية الأنشطة تعبر عن مستوى العيش واهتمامات المواطنين فإن هذه الأرقام تعبر بشكل واضح عن طبيعة نمط عيش السكان وقدرتهم على توفير الجهد أو الاهتمام الكافي للنشاط الثقافي أو العلمي أو الرياضي و التفاوت الجهوي الحاد الذي تعيشه البلاد و الذي يكشف انعدام التوازن في الاستثمار العمومي بين العاصمة والمناطق “المفيدة” وباقي المناطق في ما يتعلق بالبني تحتية والتجهيزات الضرورية لهذه الأنشطة التي تكاد تكون غائبة في الجهات الضعيفة اقتصاديا.
وإن هذا العدد من الجمعيات الذي ظهر بعد 2011 ونوعية أنشطتها تدفعنا للتساؤل حول طبيعة هذه الظواهر الجديدة في تونس حيث يبدو جليا أن ظهور أغلب هذه الجمعيات لا علاقة لها بالعمل المدني التطوعي حسب تعريفه، حيث من المفروض تعريفا أن الجمعيات هي التقاء واع لشخصين أو أكثر لتعاطي نشاط ذو فائدة محلية أو وطنية دون مقابل، ونُظيف أن أهداف الجمعية محددة سلفا ضمن قانونها الأساسي كما أن عملية تمويل الجمعيات منظم بمقتضى القانون عدد 88 لسنة 2011 ،غير أن ما نرصده هو أن هناك إخلالات بالجملة في ما يتعلق بنشاط الجمعيات في تونس وكذلك بعمليات التمويل وجهات التمويل ولعل ضعف إدارة رئاسة الحكومة المشرفة على تكوين الجمعيات وعلى مراقبة نشاطها هو سبب رئيسي في ما حصل من فوضى وعشوائية في بعض الحالات، وهي مقصودة في أغلب الحالات الأخرى ،خاصة عندما نعلم أن عددا هاما من هذه الجمعيات ارتبط عملها ببرامج وأهداف أحزاب سياسية علما أن هذه الجمعيات ترفض التصريح بمصادر تمويلها.
هذا صنف الجمعيات التي ارتبطت بشكل مباشر بجمعيات ومنظمات أجنبية على قاعدة القبول بما تقدمه هذه المنظمات من برامج ومفاهيم ومعطيات ،تُسوق لها جهات خارجية على أنها معطيات وحقائق علمية و كونية غير قابلة للدحض أو التشكيك في مضمونها أو في الجهة التي تسوق لها ،والمطلوب من الجمعيات التونسية أو غيرها هو العمل على تنفيذ تلك البرامج ونشر الأفكار المُنتجة من قبل نسق دولي ليبرالي متوحش دون مراعاة لنسق الثقافات المحلية وما تمتلكه من قيم مشتركة ودون حترام كذلك للوعي الجمعي مهما كانت علاّته وتدفع نحو أنساق فكرية كونية (غربية) تتجاوز الخصوصيات الوطنية نحو مجتمع كوني ينبني على جملة من القيم الليبرالية.
وما شدّ انتباهنا هو التقبل السهل لجملة الأفكار والمفاهيم من قبل الشباب التونسي والاجتهاد والتنافس في ترويجها بتمويلات أجنبية دون إعمال العقل بسبب عجز فكري وغياب القدرة على إعادة النظر في ما يقدم لهم من برامج في مجال التكوين الحقوقي أو المواطني أو في مجال حقوق النوع الاجتماعي مثلا،إذ نلاحظ أن آلاف الملتقيات التي تم تنظيمها منذ 2011 في نزل فاخرة ، يصر منظموها على ترديد جملة من المفاهيم بشكل سطحي إلى حد المبالغة وباستعمال مصطلحات أنجليزية أمام حضور لا يحذق هذه اللغة وما يستمعون إليه من تدخلات،بينما نلاحظ مدى رضا المنشطون لهذه اللقاءات عن أنفسهم وإحساسهم بالثقة في أنفسهم وفي ما يكررونه من مفاهيم مُبهمة أمام جمهور يتابعهم بأعين جاحظة وأفواه شبه مفتوحة،لذلك نتساءل أما حان الوقت لنستعيد عافيتنا ونُعمل الفكر في ما نتلقاه ونفاخر به على المنصات التلفزية وفي النزل الفخمة،وكأن الحديث في الديمقراطية أو الحوكمة الرشيدة أو حقوق النوع الاجتماعي أو.. أو ، غير ممكن إلا في النزل من صنف أربع أو خمس نجوم.
وإننا نتساءل هل تم يوما إدراج مسألة مناقشة مدى ملائمة المفاهيم المطروحة لسوسيولوجية الفئات المستهدفة في تونس أو أي بلد آخر ،إذ لا يستقيم أن تعقد مئات الندوات للحديث حول المرأة الريفية وبعث المشاريع الصغرى من قبل متدخلين لا معرفة لهم بجغرافية و لا سوسيولوجية البلاد، كما أنه لا يستقيم طرح حلول جُربت في فضاءات اجتماعية وجغرافية وتاريخية غربية على مناطق تختلف جذريا عن البلدان موضوع التجربة .
ولقد أثبتت التجارب التي قادتها عدة منظمات دولية مثل : F.A.O. و P.N.U.D.وOXFAM وG.W.Z. و EUROSTEP وW.W.F في القارات الخمس فشل هذه المنهجية وهو ما يفسر تمسك هذه المنظمات ،منذ حوالي 30 سنة بمصطلح المنهجية التشاركية غير أننا نتساءل عن جدوى هذه المنهجية حين يكون موضوع النقاش أو الطرح هي جملة من القيم والتقنيات والمنهجيات المُسقطة ،وقد كُتبت مئات الدراسات التي تحدثت عن مخرجات هذه التجارب وبينت محدودية هذه المنهجيات وما تسببه من نفور الجماعات المستهدفة بعد الوقوف على النتائج المحققة ولكن بشكل متأخر .
إن تلقي نماذج فكرية وسلوكية جاهزة ظهرت في الغرب ، و قرر موظفون بمكاتب الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو غيرهما من المنظمات الدولية تصديرها لمجتمعات أخرى وخاصة مجتمعات العالم الثالث حيث أصبح تطبيق أسس هذه النماذج شرطا أساسيا لدى البنك الدولي أو الصندوق الدولي أو الأمم المتحدة ،قبل الموافقة على إسناد القروض أو القبول بمنظماتنا وجمعياتنا للمشاركة في برامجها والحصول على التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه البرامج و القيم الحقوقية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، و نرى أن طرح جملة من المفاهيم والقيم مثل حرية الأقليات وفرض مفهوم النوع الاجتماعي ومسألة الإرث وبعض الحقوق في صيغتها المطلقة في تونس ليس صدفة بل هو ثمرة مئات الملتقيات التكوينية خلال السنوات الأخيرة بتمويل من المنظمات الأجنبية وإشراف مباشر من قبل أعضاء هذه المنظمات.
ونستطيع الإدعاء أن ما تقدمه هذه المنظمات ليس كله مرفوضا أو غير متصل بواقعنا الاجتماعي أو أنه جزء من مؤامرة تحاك ضدنا لسلبنا سيادتنا أو فسخ هوياتنا،إذ أن واقع الأشياء أكثر تعقيدا ويصعب القبول بالقول أن كل منظمات الدنيا والعاملين بها من علماء وفنيين وإداريين وعملة ليس لهم من اهتمام سوى محاصرتنا نحن و تزييف وعينا بواقعنا من أجل سلبنا إرادتنا، وإننا نحن أناس أسوياء نملك من الوعي والقدرة على الفعل ما يمكنه أن يجعل منا مجتمعات متقدمة وحرة،يقول ماكس فيبر أن الهيمنة تتطلب فعل وقبول بالفعل وبالتالي فإننا نعتقد أنه إذا كانت رغبة بعض الدول الغربية أو الجهات في الهيمنة واقعا لا يقبل الدحض فإن منطق الأشياء يفترض أن نتساءل نحن حول أسباب التقبل السهل والسريع لدينا بالأنماط الثقافية والمجتمعية المقدمة والإيمان بحقنا بل من واجبنا نحن كذلك أن نُعمل العقل في ما يمكن أن نقبل به من أفكار ومفاهيم وأنماط عيش نابعة من واقعنا نحن،فالتحدي الواقعي الحقيقي إذا هو تحدي تحرير العقل، ويجب أن يكون المعيار الصحيح لقياس تحرر العقل التونسي والعربي هو مدى استجابة ما نطرحه من أفكار ومفاهيم لواقعنا المادي البسيط كما نعيشه وندركه نحن.
وإن أول درس نتعلمه من دراساتنا المقارنة لتجارب المجتمعات المختلفة ومنها المجتمعات الغربية التي تتفوق في هذه اللحظة التاريخية ، أن هذه المجتمعات أنتجت عبر صيـرورات تاريخية طويلة حلولا و وسائل متعددة لمجابهة واقعها المتحول، تخلت عن بعضها وتمسكت بالبعض الآخر ولم ترى ضيرا في احترام قوانين الحركة في مجتمعاتها من خلال التمسك بما ثبت نجاحه من حلول وأساليب في مواجهة الواقع والتخلي عما أثبت الواقع فشله دون حرج ولكننا نرى أن المبدأ الأساسي لديهم هو مبدأ حرية العقل البشري في طرح السؤال والبحث المستمر عن الإجابات العقلانية الكفيلة بمساعدته على الاستجابة لحاجته المتجددة.
أما الدرس الثاني فهو أن كل الأشكال التنظيمية التي ظهرت عندها كانت نتيجة لتفاعل الإنسان مع واقعه حيث كانت الجمعيات أسلوبا محليا في فترة متقدمة في أوروبا لتنظيم التجارة كما كانت الإدارة البيروقراطية شكلا آخر متقدما للتنظيم البشري ابتُـكر للتحكم في نتائج الثورة الصناعية والاقتصادية عندهم، و كانت الأحزاب السياسية استجابة أخرى لحاجة الناس للتعبير عن آرائهم إثر إنجاز ثوراتهم السياسية على الملكية والإقطاع ،لذلك نعتبر أنه من حقنا بل من واجبنا الفكري أن نتساءل حول مغزى الأشكال التنظيمية والمفاهيم الجديدة التي ظهرت بالوطن العربي وأصبحت تشكل إطارا للفعل اليومي لكل المهتمين بالشأن العام ،على الأقل في مجال الفعل المدني والسياسي ،ودون أن يكون هناك وعي حقيقي بمضامين هذه المفاهيم وكيف تشكلت ،لذلك بدءنا الحديث بطرح جملة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية لعلها تساعدنا على الفهم .