يكتسي البحث في تاريخ المجموعات البشرية أهمية قصوى ،للتعرف على طبيعة هذه المجموعات و نسق تطورها و تحديد المؤثرات الطبيعية و الثقافية و السياسية التي صاحبت هذا التطور و كيفية التأثير فيه.
و رغم اختلاف القراءة للتاريخ بحسب الرؤية الفكرية و موقع الباحث أو اختلاف المنهجيات أو مدارس البحث من تاريخ و انثروبولوجيا آو تكنولوجيا….
فان تثبيت الصورة لحركة التاريخ أو المجتمعات البشرية في أزمة تاريخية متلاحقة يمكن القارئ أو الباحث من الاقتراب من موضوع بحثه في جانبه المادي و الثقافي و التاريخي و يجنبه الوقوع في فخ الإسقاط النظري و المعرفي على المجموعات المدروسة ، و الميل الذاتي لقراءة الأحداث و الظواهر السوسيولوجية من خلال المعارف و القناعات الذاتية و الانزلاق إلى حشر القوالب النظرية والمعرفية المكتسبة على ظواهر اجتماعية و تاريخه و السهو عن الظرف التاريخي و التنوع الإنساني الذي أنتج حضارات متنوعة عبر الزمن.
و لان الحضارة الإنسانية هي مراكمة مستمرة لفعل الإنسان بتنوعه ، تتميز بالاشتراك في عديد المعاني الكبرى و تحفظ التميز و الخصوصية ، فان من شروط نجاح الباحث الاجتماعي (و في اي مجال آخر ) احترام السياق التاريخي لمجال بحثه و التفطن لخصوصية هذا المجال في أبعاده المتنوعة.
لقد أصبح جليا اليوم ان جل المختصين بعلم الاجتماع و التاريخ والانثروبولوجيا و غيرها من علوم الإنسان صاروا يؤكدون على ضرورة تواصل هذه العلوم فيما بينها عند دراسة الظواهر الاجتماعية و ذلك لان تمظهر الحياة الاجتماعية يتجلى في عدة أبعاد يكمل بعضها الآخر . و لابد للباحث الذي يسعى من خلال بحثه إلى رسم صورة ذات عمق و دقة علميين ان يكون منتبها .
إلى ان الفعل الإنساني له عدة تمظهرات (مادية و معنوية ) يفهم من خلاله .لذلك نرى اليوم ان الحواجز بين هذه العلوم بدات تتساقط ليحل محلها فهم جديد للدراسات التي تهتم بالإنسان و بالمجموعات البشرية
و من هذا المنطلق نعتبر انه سيكون من الصعب الحديث عن جهة جندوبة في علاقتها بالأنظمة السياسية و الاقتصادية المتعاقبة في تونس دون ان نقدم قراءة اجتماعية في تاريخ هذه الجهة على قلة المراجع و المصادر التي اهتمت بجندوبة في كل الفترات.
و نرى انه إذا لم نتمكن من التوصل إلى رسم صورة لملامح الشخصية القاعدية للفرد و المجموعة تكون تكثيفا معبرا و دقيقا لتفاعل سكان هذه الجهة مع ظروفهم الطبيعية و مع تاريخهم المليء بالصراعات فانه سيصعب علينا فهم طبيعة علاقتها بمحيطها و بمركز السلطة في حاضرها القريب.
اعتدنا في العشريات الأخيرة ، عندما نحاور احد سكان جندوبة أو المهتمين بها إلى الاستماع إلى خطاب وصفي مليء بعبارات مثل : الفقر و التصحر و التفكك و الشحوب و الجمود إلى غير ذلك من التوصيفات التي تحيلك على واقع مادي مفقر رغم غناء الطبيعة و منغلق رغم انفتاحها على البحر الابيض المتوسط و قربها من عاصمة البلاد و متفكك و شاحب رغم ثراء طبيعة الجهة.
و هي فعلا تقابلك عندما تزورها بمشهد ربما يعود بك إلى ستينات القرن الماضي بمدنها المتناثر التي تحاول مقاومة البناء الفوضوي دون جدوى يغلب عليها لون الآجر الأحمر كما لو أنها حظيرة لا تتوقف عن العمل تغالب أحياءها الشعبية المليئة بكل مظاهر الفقر
تعلو كل هذه المشاهد سحابة من الغبار الدائمة التي لا تفارق مدننا إلا فيفصل الشتاء مما يعمق من قتامة المشهد و يضفي مسحة من الحزن على سكانها .
و هي لا تزال تمارس فلاحتها على أراضيها الممتدة على سهول مجردة و كأن شيئا لم يتغير منذ العهد الروماني إذ لا نرى طرقات عصرية تشق هذه الأراضي ، كما نراها في مدن و دول أخرى و لا مصانع تستقبل إنتاجها من قموح و غلال و خضر و لا مرافق حضارية لعمال و سكان هذه الضيعات على امتداد البصر .
فيحصل لديك انطباع بأنك دخلت عالما جامدا لا يخضع لقانون الحركة الدائمة و لا قانون التأثير و التأثر و كأنه لا يهتم لما يحدث من حوله من تطور مستمر رغم بعض مظاهر التطور الحضري و التعاظم الديمغرافي بالمدن و الحضور الإداري .
هذه الجهة مارست منذ العهد النوميدي أحدث أساليب الغراسة و الفلاحة و تربية الماشية و تحولت على امتداد عدة قرون إلى أغنى الجهات المنتجة بالبلاد التونسية و أهم مصدر (ضمن محيطها) للمواد الفلاحية بأنواعهاإلىأوروبا عبر ميناء طبرقة إلى غاية عهد البايات و قد ازدهرت بها عدة مدن بكل من غار الدماء و طبرقة و بوسالم و جندوبة.
و كانت أهمها شمتو و بلاريجيا كما تميزت طبرقة التي تطورت بفضل النشاط التجاري بازدهار الحياة المسرحية و الموسيقية و تعدد معارض الرسم و النحت و قد ساعد في ذلك اختلاط السكان المحليين بالجاليات الايطالية و الفرنسية و الاسبانية .
كانت جهة الشمال الغربي و ضمنها جندوبة عاصمة نوميدية غنية ، ثم أصبحت مطمورة روما ثم سميت ببلاد المخزن في العهد الإسلامي و عاشت سقوطا مدويا منذ ذلك العهد إلى غاية الآن.
لذلك يبدو مفيدا بل ضروريا ان نقوم بقراءة اجتماعية لتاريخ هذه الجهة حتى نضمن بعدا أكثر عمقا و موضوعية لهذه الدراسة .
كتب الضابط الانقليزي : روبرتو ايلياة في دراسة نادرة بعنوان:
Brève description du Royaume de Tunis أنجزها سنة 1615 1و قد قام الباحث الفرنسي جان بينيون[i]بتحقيقها و إعادة نشرها في الدورية التونسية Les cahiers de Tunisieكتب متحدثا عن ميناء طبرقة قائلا ان هذا الميناء الذي يقع في أقصى الحدود التونسية و الجزائرية ” ص 171 عرف نمو عمرانيا و اقتصاديا كبيرين منذ ان تم إبرام عقد كراء سنة 1542 ميلادي بين شارلوكان إمبراطور اسبانيا و عائلات لوميللينيوقاريبالدي الايطاليتين لصيد المرجان ,و لقد تحول نشاط
_________________________
[1] جان بينيون : “وثيقة نادرة عن تونس في بداية القرن 17م” , الكراسات التونسية , عدد 33-34-35 , نشريات كلية الاداب و العلوم لإنسانية لجامعة تونس , 1961الميناء إلى نشاط تجاري مزدهر بفضل ما كان يتوفر في منطقة طبرقة ، باجة و سهول جندوبة من مواد فلاحية متنوعة و تحولت المنطقة إلى ممول أساسي للضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط بعديد المواد مثل : المرجان و الخضروات الجافة و الحبوب و الصابون و الزيت و و الخموروالرخام و الصوف و الجلد و الماشية وادوات اخرى نصف مصنعة ” ص 175 على امتداد قرنين اي إلى غاية 1741 ، حيث تدخل البايات لإيقاف نشاط الميناء الذي كان خارجا عن سيطرتهم فحطموا الارصفة و المخازن والمعمارالذي كان يميز المدينة.
و قد عرفت هذه الفترة تعايشا بين السكان المحليين و التجار الأسبان و الايطاليون و المالطيين و الفرنسيين و أدى النشاط التجاري المتزايد إلى دفع عملية الإنتاج بسهول مجردة و تثبيت السكان المحليين في أراضيهم و تحسين أوضاعهم الاقتصادية و تحويل هذه المنطقة إلى أغنى مناطق البلاد.
لقد نقل الباحث الفرنسي ، بكلمات مقتضبة صورة عن مجتمع محلي في جهة الشمال الغربي للبلاد منذ نهايات القرن الخامس عشر تبرز مدى تقدم السكان المحليين في عمليات الإنتاج الفلاحي و النشاط التجاري و بعض الصناعات الحرفية الصغرى حيث أصبحت أهم ممول للعاصمة تونس و بعض المناطق الجزائرية و فرنسا و ايطاليا اسبانيا و هو ما جعلها عرضة لهجمات القبائل الآتية من الغرب و القبائل المحاربة من الجهات المحاذية لها اظافة إلى الأطماع المتزايدة من قبل البايات الذين اعتمدوا في تمويل خزائن البلاد و تجهيز جيوشهم على ثروات بلاد المخزن.
و قد أدى تحطيم ميناء طبرقة و الهجمات المتكررة للقبائل الجزائرية و شجع الحكم الجزائري و القبائل المغيرة من الوسط والجنوب الى تفكيك النشاط الاقتصادي بالجهة و تفقير سكانها و تهجيرهم نحو المناطق الغابية للاحتماء من الغارات المتكررة و من طمع البايات .
هذه الصورة المليئة بالتنوع و الحركة و الحياة و التي تصف قدرة السكان المحليين على الفعل الايجابي كلما توفرت ظروفه تناقض تماما الصورة الشاحبة التي عليها هذه الجهة حاليا و هو ما يدعونا للتساؤل حول مدى قدرة السكان المحليين على استعادة قدرتهم على الفعل و عن الشروط الضرورية لذلك,وللتحقق أكثر من طبيعة سكان المنطقة و كيفية تفاعلهم مع الظروف المحيطة بهم طبيعيا و تاريخا سنتوغل أكثر في تاريخ هذه المنطقة ,و بإيجاز شديد ,سعيا لتحقيق أغراض البحث مع وعينا التام بضرورة تجنب الانزلاق إلى محاولة كتابة التاريخ ، بقدر رغبتنا في استجلاء الخصوصيات الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية لسكان هذه الجهة .
يقول الدكتور عمر السعيدي* في كتابه:les grandes plaines de la haute vallée de la Medjerda et la khroumire 1
ان أول ظهور للإنسان في هذه الجهة يعود إلى العهد النيولوتيك ، حيث أثبتت الحفريات الاركيولوجية بمنطقة كاف عقاب* بجندوبة وجود هياكل عظمية و آثار وجود إنساني منذ ذلك العهد.
وقد تميزت علاقة السكان المحليين مع كل الحضارات الوافدة عليهم بالتكامل المبني على المصلحة حيث يبدو ان ثراء المنطقة قد دفع الحضارات المتعاقبة إلى الحفاظ على البنية الاقتصادية و التركيبة الاجتماعية الموجودة قصد تطوير الثروات المتوفرة و الاستفادة منها مع السعي إلى إدماج المنطقة ضمن النسيج الجديد من خلال الإضافات العمرانية و الثقافية و العلمية 2
_______________
*د. عمر السعيدي: أستاذ جامعي , مختص في تاريخ الحضارة لإسلامية درّس بجامعة التونسية وهو أصيل ولاية جندوبة
*كاف عقاب: هي هضبة من هضاب المحيط بمدينة جندوبة (شمال غرب المدينة)
1: د. عمر سعيدي , السهول الكبرى للهضاب العليا لوادي مجردة و خمير , المطبعة الرسمية¸ تونس, 1980.
2: د.عمر السعيدي, نفس المرجع , ص 33: يتحدث عن ماغون المهندس الفينيقي المشهور والذي طوّر تقنيات الزراعة بالجهة.
فمنذ ان كانت ان كانت بلاريجيا عاصمة نوميدية 1 ( عندما لجأ إليها القائد النوميدي هيارباس HIARBASبعد خسارته للحرب ضد بومبايPompéeجاعلا منها عاصمة لحكمه).
لم تنفك تتطور اقتصاديا و سياسيا ،يقول عمر السعيدي :
« Bullarigia devait être une de ces cités importante dont les rôle économique se doublait d’une rôle politique de résidence royale »2
علما ان اسم بلاريجيا كان يشير إلى كل منطقة سهول مجردة بجندوبة 3
« C’est bien de la plaine de bulla regia au sens large que notre géographe du 11éme siècle nous parle car celle-ci à du jouer un plus grand rôle dans la vie économique de L’IFRIQIYYA que la cité elle-même »
_______________
1: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 79.
2: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 79.
3: : د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 103.
و قد عرفت المنطقة تطورا عمرانيا و اقتصاديا كبيرا ،خلال العصور النوميدية ثم القرطاجينية فالرومانية ،حيث برزت عدة مراكز حضارية هامة مثل مدينة شمتو و برج هلال بسهول جندوبة و طبرنق بجبال غار الدماء و طبرقة و هي مد ينة ذات كثافة سكانية تتراوح بين 3 و 6 آلاف ساكن على غرار باقي المراكز الحضرية الاخرى ,ترتبط بتجمعات سكانية ريفية محيطة بها ، حيث يتمتع سكان الأرياف بالخدمات التي تقدمها المدن 1 اذ يقول عمر السعيدي :« les grandes plaines villes et village étaient nombreux et souvent prospères »2
و كانت بساتين الرمان و الكروم و الزيتون و البرتقال إلى جانب الخضروات المروية و مساحات القموح الممتدة إلى جانب وفرة الماشية بأنواعها هي السمة المعتادة للمنطقة عبر قرون 3.
كما تميزت الجهة بتصدير الرخام النوميدي عبر ميناء طبرقة الذي كان يستخرج من شمتو في سهول جندوبة و يحمل عبر طريق تسمى طريق الرخام التي تعبر جبال خمير إضافة إلى المرجان اضافة الى الخشب و قشور الفرنان … لقد كان ميناء طبرقة من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط بالنسبة للفرنسيين و الأسبان و الايطاليين و كان مقصدا لهم منذ العهد القرطاجني.
_______________________
1: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 105.
2: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 85.
3: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 35.
و يبدوان قدرة السكان المحليين على التفاعل الايجابي مع المتغيرات التاريخية و قدرتهم على التعامل مع عديد الأجناس و الثقافات و الاختلاط بهم و تطوير أساليب عملهم الزراعي و التجاري مع الحفاظ على تركيباتهم الاجتماعية و الاقتصادية و القدرة على الاندماج و التطور قد مكنهم من الحفاظ على وتيرة تطورهم الحضاري و العمراني إلى درجة أصبحت فيها بلاريجيا (مدينة الملوك) من أهم المدن الرومانية في إفريقيا وحظيت بموقع (la cité romaine ) اظافة الى مدينة شمتو إلى غاية القرن الثامن ميلادي كما كان ميناء طبرقة من أهم موانئ حوض المتوسط إلى غاية القرن 17 م .
و لنا ان نتساءل الآن ، كيف يمكن لسكان هذه لمنطقة ان يفقدوا كل ميزاتهم الاجتماعية و الحضارية فيتحول ميناء طبرقة إلى كومة من الحجارة ,ليست له أية قيمة اقتصادية أو تجارية و تتحول بلاريجيا و كل السهول المحيطة بها إلى”خراب” اثري فاقد للحياة؟
هذه الجهة التي تحولت إلى قطب اقتصادي و سياسي فرض نفسه على روما ، مما حدا ببابا الكنيسة الرومانية القدوم إلى بلاريجيا سنة 399م1ليلقي خطابا يستجلب فيه سكانها ستتحول لاحقا الى رقعة جغرافية جامدة ،مجهولة التاريخ طيلة العصور الوسطى.
و الملفت للانتباه أننا عندما نقرأ للدكتور عمر السعيدي الذي نقل عن كل من Charles Tissot و جان بينيون و A. Winkler و Abou-Ubay Al Bakri و J.Tountain ، نجده يتحدث عن قرى و مدن العهد النوميدي و القرطاجيني ثن الروماني على انها قرى و مدن مزدهرة متقاربة و لم تجد وصفا لمدن كبرى مثل بلاريجيا ،شمتو و طبرقة تتناقض فيه مع قراها الريفية.
و ان اغلب المؤرخين الذين اهتموا بوصف القصور و الضيعات و المدن الضخمة مثلCHARL TISSOT و جان بينيون و Abou-Ubay Al Bakri
__________________
1: د.عمر السعيدي, نفس المرجع, ص 86.
يقدمون إشارات واضحة إلى وجود قرى آهلة بالسكان و النشاط الفلاحي و التجاري ، يعطي الانطباع بأنها تجمعات مهيكلة و ناشطة و ليست أحياء هامشية.
وقد تميز تاريخ المنطقة في العصور الوسطى بشحّ المراجع التي تهتم بها هذه المنطقة لذلك اعتمدنا على ما توصل إليه الدكتور عمر السعيدي و جان بينيون إضافة إلى أعمال كل من الدكتور عبد الحميد الهلالي و الدكتور رضا العشي وph antichan .
ومن الأكيد ان هناك مجموعة من المراجع الأخرى المختصة في الفلاحة ،و معالجة الرسوم العقارية و دراسة التربة و المناخ و لكننا لم نرى جدوى في الاعتماد عليها .حيث ان غاية البحث هو تقديم قراءة اجتماعية عن طبيعية السكان و حراكهم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي حتى تتكون لنا صورة عن موضوع البحث و هو طبيعة العلاقة بين السكان المحليين و السكان الوافدين في شكل جيوش أو قبائل غازية في تلك الفترة وصولا إلى علاقتهم بالسلط المركزية التي تشكلت عبر قرون و إلى غاية الآن.
قدم الدكتور عبد الحميد الهلالي جهة جندوبة بالقول .
” ان المقصود بجهة جندوبة هو منطقة مجردة العليا (أو مجردة الوسطى حسب بعض التسميات الأخرى) التي تضم الرقبة أو غار الدماء و دخلة جندوبة و دخلة أولاد بوسالم كما تتكون الجهة بالاظافة إلى السهول التي يشقها وادي مجردة و روافده تاسة و ملاق من منطقة جبال خمير التي توجد بها كل من عين دراهم و طبرقة.1
تقع جندوبة في أقصى الشمال الغربي ، يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط و من الغرب البلاد الجزائرية (على مستوى سوق هراس و القاعة ) و من الجنوب ولاية الكاف و من الشرق ولاية باجة.
___________________
1: د.عبد الحميد الهلالي, جندوبة,8811-1956,منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية, ص31, تونس,2009
و يضيف الدكتور رضا العشي ان من خلال ما كتبه الجغرافيون العرب و المؤرخون كالصغيرين يوسف و الرحالة الغربيون في العصور الحديثة و المعاصرة و خاصة أولئك اللذين زاروا المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فان المجموعات البشرية التي تركزت بالسهول العليا لمجردة هي “كونفيدرالية قبائل” انتشرت على المجال الجغرافي الذي يمتد من غرب باجة إلى الحدود الجزائرية و هي من الشرق إلى الغرب : أولاد بوسالم ،أولاد الجنادبة ، حكيم و أولاد سديرة و قبائل خمير.
و يعتبر تواجد هذه المجموعات القبلية العربية بالمنطقة قديما نسبيا لأنه يعود إلى القرن الحادي عشر ميلادي اي إلى فترة الزحف الهلالي انطلاقا من الصعيد المصري و يبدو ان هذه المجموعات قد استقرت في الهضاب المحيطة بسهول وادي مجردة لان هذا المجال قد غمرته المياه و المستنقعات لمدة زمنية ليست بالقصيرة و مع الارتفاع النسبي للحرارة .تقلصت مساحة العديد من المستنقعات و تحولت الى سهول خصبة و بفعل ارتكاز معاشها على الفلاحة،كما يقول المؤرخ ابن خلدون ، فان هذه القبائل كانت مسالمة إلى حد كبير تنشد الأمن و الاستقرار و في إطار الحفاظ على مصالحها تحالفت مع البايات ومكنتهم من استخلاص جزء من الفائض الذي توفره زراعة الحبوب و هو ما جعلها تصبح قبائل مخزنية1.
و على الرغم من هذا الوصف السلس ( مما شجعني على نقل فقرتين كاملتين ) لجهة جندوبة و تاريخية تركيبتها السكانية لكل من د. عبد الحميد الهلال و رضا العشي فان الأول سكت عن ذكر سكان جبل خمير عند حديثه عن السكان القدامى للجهة في حين ان الدكتور عمر السعيد يذكر في الصفحة 135 من كتابه Les grandes plaines de la haute vallée de la Medjerda ان القبائل العربية قد وصلت إلى عين دراهم و طبرقة منذ القرن الثاني عشر*
_________________
[1]د.رضا عشي، محطات نيرة من تاريخ جندوبة ،منشورات الرشي ص 129-130, تونس 2003.* ” “le géographe de Roger II ,Roide Sicile note , e, effet , pour la XII siècle , qu’aux environ de Tabarka , se trouver des Arabes (nomades).
بينما أسهب الدكتور راض العشي في جرد أسماء القبائل و العروش العربية التي استقرت بالجهة منذ القرن الحادي عشر إلى غاية الأربعينيات من القرن الماضي دون التمييز بين القبائل القديمة التي التصقت بالأرض و التاريخ و العروش و حتى العائلات التي واصلت توافدها إلى جندوبة إلى غاية 1940 .
و سرّ اهتمامنا بذلك هو الرغبة في الوقوف عند كل المتغيرات الاجتماعية و الديمغرافية عبر تاريخ الجهة لرصد مدى تأثيرها على التركيبة الاجتماعية المحلية و على ثقافة السكان القدامى في علاقتهم بالارض و العمل و بالآخر (انظر الملحق* ) .
ان الصورة التي اجتهد كل من الدكتور عبد الحميد الهلالي و الدكتور رضا العشي في رسمها لأهالي جهة جندوبة في فترة زمنية معينة و في منتصف القرن التاسع عشر إلى غاية منتصف القرن العشرين ، هي صورة لمجموعات بشرية تفاعلت منذ قدومها مع الظروف الطبيعية لهذه الجهة و مع أحداثهاو أثرت فيها كما تأثرت بها لتصنع نسيجا اجتماعيا خاصا يحكي تاريخ المنطقة .لقد عرفت هذه الجهة فترات ازدهار و انحدار متتالية و هامة .إذ عاش سكانها القدامى و منذ القرن الثالث قبل الميلاد اي في الفترة التونسية و القراطاجينية ثم الرومانية و إلى غاية الثامن ميلادي حروبا عدة و لكنهم بنوا اقتصادا اعتمدت عليه قرطاج ثم روما إلى جانب جيهات البلاد المجاورة و كذلك دولة الجزائر .
____________________________
.
* جدول : التوزيع المجالي للسكان, منقول عن كتاب د.رضا العشي, محطات نيرة عن تاريخ جندوبة, الذي نقله من الارشيف الوطني.
ثم و لأسباب غير معلومة عاشت الجهة فترة انحدار و ركود إلى غاية منتصف القرن الحادي عشر ميلادي حيث انتعش اقتصادها من جديد بل و تعاظم بفضل قدوم الاسبانيين ثم الايطاليين و الفرنسيين إلى ميناء طبرقة و استعادت الحركة التجارية نشاطها فتحولت جهة جندوبة و باجة إلى ممول رئيسي للحركة التجارية بين تونس و جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى غاية بدايات القرن السابع عشر حين قررت السلطة المركزية للبلاد التونسية افتكاك ميناء طبرقة و الإقدام على تحطيم منشاته و مراسيه و منع الأوروبيين من النفاذ إليه و هو ما أدىإلى تفقير شامل للمنطقة مما دفع العديد من العروش و العائلات إلى هجرة أراضيهمبحثا عن موارد زرق جديد ة
و قد عرفت الفترة اللاحقة موجات من النزوح من داخل الجهة إلى العاصمة و كذلك من وسط البلاد ووسطها الغربي و جنوبها في اتجاه جندوبة التي لم تنفك ان تكون ملاذا في أوقات الجفاف و الجدب .
جندوبة في عهد البايات :
التركيبة السكانية:
تتميز جندوبة (*) بكثافتها السكانية العالية1(129 ساكن في الكم²) و قد كانت منذ قرون تتميز بجاذبيتها للسكان بفضل ثراء طبيعتها و اعتدال مناخها و يتوزع سكانها على المناطق الغابية و الجبلية والذين يمثلون48 % من مجموع السكان الذين استقر معضمهم على سهول مجردة العليا الممتدة من دخلة غار الدماء إلى غاية معتمدية بوسالم مرورا بسهول جندوبة و يبلغ تعدادهم العام(حسب التعداد العام للسكان و السكنى للسنة 20142) حوالي 447 ألف نسمة .
كان سكانها الأصليون بربرا تعايشوا مع الحضارة النوميدية و القراطاجينية ثم الرومانية إلى غاية الفتح العربي الإسلامي و قدوم الهلاليين في منتصف القرن الحادي عشر (1047 م)3.
و قد اخذوا عن هاته الحضارات فنون الزراعة و الصناعة و برعوا في تحديث و تنويع منتجاتهم الفلاحية و الصناعية كما تعلموا فنون العمران و مد الطرقات و التجارة إلا أنهم حافظوا على لغتهم الأصلية و عاداتهم البربرية في إحياء طقوسهم و احتفالاتهم و معاملاتهم الاجتماعية 4الى غاية القرن الثامن عشر و ان القبائل العربية استقرت في البداية في الهضاب المحيطة بسهول مجردة ثم اكتسحوا السهول5فجبال خمير 6و من أهم القبائل التي استقرت بالمنطقة منذ عهود قديمة أولاد بوسالم جندوبة ، حكيم و اولاد سديرة . و ستتفرع عن هذه القبائل عدة عروش نذكر منها أولاد البوسليمي ، بالطواهرية ، العياييدة ، الطراخنة و الريابنة و المعاريف و دريد في سهول جندوبة و الجمامزة و بلطة
__________________
(*) جندوبة : تسمية رومانية و تعني سوق القمح : أنظر أبحاث الدكتور مصطفى الخنوسي وهو باحثأركسيولوجي مهتم منذ عدّة سنوات بمنطقة الشمال الغربي.
1:النتائج الأولية للتعداد العام للسكان و سكن, الموقع الرسمي للحكومة التونسية www.tunisie.gov.tn
2: نفس المرجع
3: françois decart, ‘les invasions helalie en ifriquia’ , clio, 2003
4: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 20-21 , librairie ch.delagrave, paris,1883
5: نفس المرجع : François decart
6: نفس المرجع : François decart
الأعشايشية ’ البلدية, الشواولة’ ببوسالم و أولاد سديرة و حكيم و أولاد سلطان و الدخايلية و المراسن بغار الدماء و أولاد هلال و القوايدية و بني مازن و العطاطفة و التباينية و سلّول و الخمايرية بعين دراهم و الخذايرية و الحوامدية و الدبابسة بطبرقة 1.
و قد جلبت هذه المجموعات هذه المجموعات البشرية *معها دينا و لغة ونمط عيش مغاير إذ تعرف هذه القبائل بترحالها المتواصل بحثا عن المرعى لذالك فهي تعتمد الخيام مسكنا و تمتهن تربية الماشية وتحمل ثقافة جديدة مبنية على تعاليم الدين الإسلامي و تتكلم العربية لغة
و قد لعب العنصر الديني دورا أساسيا في انصهار هذه المجموعات البشرية منذ القرن الحادي عشر ميلادي2، إذ خلافا للحضارات السابقة التي تعاملت مع المنطقة و سكانها على قاعدة المصلحة الاقتصادية المشتركة فسعت إلى تطوير النسيج الاقتصادي بها و الاستفادة منه و لم تسعى إلى تغيير هوية السكان فإن العنصر العربي كان يعتبر نفسه فاتحا ومبشرا بدين جديد سيتبناه السكان الأصليون خلال الفترات اللاحقة وسيستبدلون لغتهم باللغة العربية لفهم الإسلام و قراءة القران وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تبني ثقافة جديدة وهي الثقافة العربية الجديدة الإسلامية .
ويبدو أن قبائل خمير التي اعتنقت الإسلام كانت أكثر بطئا في التخلي عن لغتها3وتقاليدها وواصلت الاحتكام إلى قواعدها القديمة في معاملاتها التجارية وفي تطبيق العقوبات4 على المخالفين للقوانين القديمة البربرية إلى غاية القرن التاسع عشر.
ويبدو أن كثافة التواصل و العيش المشتركة خلال القرنين الأخيرين قد ساهمت في اندماج هذه المجموعات ضمن هوية واحدة و ثقافة متجانسة في محيط جغرافي أصبح يضم بلاد تونس و الوطن العربي، مع الخصوصيات الثقافية التي تميز كل جهة و دولة.
______________
* بدات الفتوحات منذ نهاية القرن السادس وجلبت معها جيوشا استقر البعض من عناصرها بالمنطقة ولكن لم يكن لهم تاثيرا ثقافيا يذكر
: Protectorat Français, secrétariat general de gouvernement tunisien, nomenclature et répartition des tribures de Tunisie, imp. Française et orientale, E.Bertrand,1900.www.gallica.bnf.fr
2: françois decart, ‘les invasions helalie en ifriquia’ , clio, 2003
3:P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 20-25 , librairie ch.delagrave, paris,1883
4: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 65-68 , librairie ch.delagrave, paris,1883
الخصوصيات الثقافية (*) و إدارة الشأن العام في الجهة في عهد البايات :
لقد كان انتشار الأمّية قاسما مشتركا بين سكان السهول و الجبال الغابية في جهة جندوبة ففي حين بدأ التعليم ينتشر من خلال جامع الاغالبة و جامع الزيتونة في المناطق الحضرية الكبرى كالمهدية و القيروان و تونس العاصمة فان سكان جندوبة الذين أداروا ظهورهم إلى العاصمة التي كانت بالنسبة لهم مصدر التفقير و القمع السياسي و العسكري و الاقتصادي على امتداد القرن السابع و الثامن و التاسع عشر قد خيّروا اللجوء إلى الجبال في معظمهم حفاظا على أرزاقهم و لم يتبقى بالسهول سوى الملاكين الكبار الذين لا يستطيعون ترك أملاكهم و أراضيهم و استبقوا معهم العائلات التي تعمل لديهم إضافة إلى مجموعات من المزارعين الصغار الذين اختاروا أسلوب الكر و الفر مع المحلة التي تزورهم مرّتين في السنة .
أدّت هذه القطيعة إذا إلى حجب التعليم عن أبناء الجهة و اكتفى أهاليها بإرسال ابناهم إلى الكتاتيب المنتشرة في السهول و الجبال لتعلم بعض السور القرآنية شفويا ثم يكلفون برعاية الأغنام.
و هناك عدد قليل من الأطفال يواصلون تعليمهم بالزوايا ، و هي مؤسسات دينية تقليدية توجد بأضرحة الأولياء الصالحين1لكل عشيرة أو قبلية أو بالمساجد أو بأماكن تخصص لها حسب قدرة كل مجموعة على تمويل هذه المؤسسات بالعطايا و الهديا لتوفير السكن و الأكل لطلاب العلم .
و كان التعليم يقتصر على حفظ القران و تعلم الكتابة 1و النحو و كان هذا التعليم يقتصرعلى فئة قليلة و لا يمت للحياة اليومية في الجانب العلمي بصلة 2.
و كان القائمون على الكتاتيب و الزوايا يؤدون عدة ادوار أخرى مثل المداوات بالأعشاب و “التعاويذ الدينية ” و إحياء الشعائر و المناسبات و عقود الزواج و حل الخلافات بين المتخاصمين و قد كان إشعاعهم و سلطتهم التي تستمد شرعيتها من علمهم بالدين* كاف لخلق توازن اجتماعي يعتمد عليه الأهالي للعيش المشترك و بقدر ما كانت كاريزما الشيخ أو المؤدب أو المقدم القائم على شؤون الولي الصالح للقبيلة ، قوية فان تلاحم أفراد العشائر يزداد قوة و لا تشكو العشيرة أو القبيلة من تعطل الوظائف الاجتماعية.
_________________
*: سنعتمد مفهوم الثقافة ببعديها النثروبولوجي و الاتنولوجي.
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 28-39 , librairie ch.delagrave, paris,1883
2: Pierre Bardin, ‘la vie d’un douar’, page 104-108, mountan et co, Paris ; 1965
*انظر مكس فيبر في حديثه عن مصادر السلطة في كتابه : العالم و السياسة .
و من أهم الزوايا التي انتشرت في تلك الفترة زاوية سيدي عبد اله بالجمال بجبال خمير ، سيدي عبيد بسهول جندوبة الشمالية و سيدي عسكر بمنطقة جندوبة و سيدي بن مطير ببن مطير و سيدي عبد الله السدراوي بطبرقة 1 و سيدي صالح البلطي ببوسالم…. و هم ينتشرون بالهضاب .
و يعرف عن الأولياء أنهم ينحدرون من أصل شريف * او انهم تميزوا بصيفات خلقية عالية رفعتهم بعد موتهم الى موقع الولي الصالح.
____________________
1:رضا العشي, محطات نيرة من تاريخ جندوبة ص 103-126.
*: الشريف: هو شخص صالح يعود أصله الى أحد الصحابة أو المرافقين للرسول في حملات الفتح الاسلامي ,يستمد سلطته وهمنته الاخلاقية والتنفيذية من هذا النسب.
- المؤسسات التقليدية ووظائفها:
نعني بالمؤسسات التقليدية كل المؤسسات التي كانت تؤدي دورا اجتماعيا أو اقتصاديا أو دينيا أو تربويا منذ القرن السابع عشر .و التي انبثقت عن ثقافة السكان المحليين كاستجابة طبيعية لحاجاتهم اليومية في التداوي أو التعامل التجاري أو التعبد و التعاقد و التزاوج و هي من جنس ثقافتهم و تستمد شرعيتها من إيمانهم بقدسيتها الخارقة أو بقدرتها على مواجهة المشكلات اليومية, اذاكانت مؤسسة مدنية و ليست دينية و سنعتبر المؤسسات التي أحدثها البايات مؤسسات “حديثة “(مقارنة بالمؤسسات السابقة له ) تعتمد شرعيتها على قوة السلطة . و هي غريبة عن النسيج الاجتماعي التقليدي بأفرادها القائمين عليها * و القوانين التي تحكم بها و الهدف من وجودها .
و سنلاحظ عند تحليلنا للمؤسسات التقليدية ، تباينا في تركيبة ووظائف هذه المؤسسات بين المناطق الغابية (اي جبال خمير ) و سهول وادي مجردة
كما سنرى ان ظهور المؤسسات الحديثة (مؤسسات البايات) قد زاحم المؤسسات التقليدية و افتك منها اغلب أدوارها و أدىإلى تفكيكها (و لو نسبيا) بصفة مبكرة بينما حافظت هذه المؤسسات على وجودها في جبال خمير إلى غاية القرن التاسع عشر 1و كانت عنصرا حاسما في صمود قبائل خمير أمام هجمات المحلة**على امتداد ثلاثة قرون و كذلك أمام هجمات الجيش الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر.
يقول ب هـ.أونتيشون “إلى رجال الدولة الفرنسيين الراغبين في تأسيس حكومة حرة و دون تعقيد أوصيكم ان تأملوا في نموذج الحكم عند البربر و الذي يؤدي وظيفة بنجاح منذ قرون”2
_________________
*: أغلب القيادات كان يشرف عليها المماليك
**: المحلة: تنظيم عسكري مهمته الخروج مرتين في السنة لجمع الجباية و منع تحركات الاهالي عند الحاجة.
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 51 , librairie ch.delagrave, paris,1883
2: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 70 , librairie ch.delagrave, paris,1883
ينتظم سكان خمير ضمن نواتات صغيرة أولى تسمى الخروبة* و هي مجموعة من العائلات التي يجمع بينها رابط دموي و تتوحد هذه النواتات في شكل ارقى وهي العشيرة و باتحاد مجموعة من العشائر تتكون القبيلة و قد كونت قبائل خمير على مر الزمن فيدرالية تسمى فيدرالية القبائل كما سماها ب هـ.أونتيشون
و بقدر ما تتمتع كل وحدة من هذا التنظيم باستقلالية تامة في إدارة شؤونها من عمل و تنظيم و تطبيق أحكام القانون على المخالفين ، إلا ان مكونات هذا الوحدات تلتزم باحترام نفس القانون و لا يحصل بينها تضارب كما تجتمع على تنظيم الحياة الجماعية في كل ما هو مشترك.بدءا بالدفاع عن جبال خمير و جمع الجباية لصيانة الزوايا و الكتاتيب و صيانة الطرقات الجماعية و شراء البارود و الأسلحة لكل العشائر مجتمعة.
و لتنظيم حياتهم اليومية استنبطوا نظاما إداريا يعتمد على مجلس الجماعة الذي يضم كل أعضاء العشيرة الذكور (من 16 سنة فما فوق ) و هو يجتمع مرة في الأسبوع و يعتبر حضور كامل أعضاءه واجبا و لكل فرد الحق في الحديث و التصويت.
و يعتبر مجلس الجماعة سلطة ” لا سلطان عليها” تتدارس كل القضايا التي تهم العشيرة من زراعة , حراثة , جمع الجباية والدفاع عن العشيرة ومعاقبة المخالفين وصيانة الزاوية و الطرقات داخل القرية …
و يقوم على إدارة مجلس الجماعة أمينا يتم انتخابه داخل هذه الهيئة بعدما يتم تقديمه للحضور وتعداد مناقبه وتتم الموافقة عليه بالإجماع . ويسهر الأمين على تنظيم جلسات الجماعة و جدول أعمالها ثم يسهر علي تنفيذ قراراتها لكي يتحول إلي شرطي و قاضي و جامع الضرائب ومحكم بين الناس في خلافاتهم و حامي للأمن في القرية في الفترات التي تخلو من الحروب وللجماعة الحق في إلغاء قوانين قديمة وسن قوانين جديدة و إعلان الحرب والسلم .
و للمجلس صلوحية تحديد العشر وكذالك قيمة الجباية التي تجمع لتمويل الحرب وصلوحية توزيع هذه المقادير المالية والعينية في شؤون متنوعة مثل صيانة الكتاتيب مساعدة الضعفاء ,و إطعام المسافرين , خلاص الشعراء وفرق الغناء التي تفتن العشيرة و تخصيص جزء لتمويل صندوق القبيلة .
________________
*الخروبة : هي شجر يجلس تحتها افراد العائلة الموسعة , وقد اصبحت العائلة تسمى باسم الشجرة عنب
اجتماعها
ويساعد الأمين وكيل و يهتم أساسا بالمسجد و كاتب ومناد عمومي يتولى إعلام السكان بكل جديد وممثل عن كل مجموعة عائلات (الخروبة )ويسمى DAHMAN .
ويقوم هذا الفريق بإدارة الحياة اليومية للعشيرة تحت إشراف الأمين و يشترط في الأمين أن يكون مقيما بين العشيرة وتحدد مدة نيابته بما قدرته على خدمة العشيرة “رأينا أبناء يمكثون في مناصبهم عشرة سنوات أو أكثر وفي حال فشل يقيله مجلس الجماعة عبر التصويت “1.
و تتكون الميزانية العادية للعشيرة من : – موارد ناجمة عن المخالفات
– موارد ناجمة عن قدوم أفراد يرغبون في الإقامة
– موارد ناجمة عن ولادات جديدة
– موارد ناجمة عن الهبات المقدمة للمسجد
– موارد ناجمة الصابة (العشر)
وتتوزع نفقات الميزانية على : – شراء وتوزيع اللحوم
– صيانة المسجد
– شراء الأراضي
– صيانة عيوب الماء
– صيانة مقر مجلس الجماعة+السوق+المقبرةوالطرقات
– تامين الصيانة للعابرين
و ينطوي هذا الهيكل إلى هيكل أعلى يضم أمناء العشائر في إطار قبلي بينما تنظم القبائل فيدرالية لها مجلسها و يتكون من أمناء القبائل و لها أمينها الذي يقوم على إدارة المجلس و التصرف في ميزانية عامة تشترك القبائل في تمويلها.
____________________
*: الخروبة: شجرة توجد بجبال خمير يجتمع تحتها أفراد العائلات الموسّعة لتدرس شؤونهم اليومية.
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 80 , librairie ch.delagrave, paris,1883
و يتكفل مجلس فيدرالية القبائل بتامين السلاح و شراء و تصنيع البارود لجيش قوامه ثمانية آلاف مجند.
و يتحول أمين الفيدرالية زمن الحرب إلى قائد أعلى للجيوش ، يؤمن الغذاء و السلاح و ينسق العمليات الحربية بمساعدة أمناء القبائل. و تؤدي هذه المؤسسات عدة وظائف متكاملة في ما بينها في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي و الديني و التعليمي و في ومن الحرب.
و يتميز هذا “المجتمع”بالمساواة بين أفراده إذ تغيب عندهم مظاهر التمييز “الطبقي” في اللباس و المسكن و نمط العيش و هم مواطنون كاملي الحقوق عند ممارستهم لنشاطهم في مجلس الجماعة مما دفع ب .هــ.أونتيشون إلى القول :
1“Ce sont déjà de bons démocrates ,à nous maintenant d’en faire de bon français “
في سهول جندوبة اعتمدت التركيبة الاجتماعية في بداية تكونها و استقرارها على القبيلة كوحدة مركزية تحدد الفضاء الجغرافي (حسب قوة و عدد رجالها) الذي ينتمي إليه أفرادها و هي مرجعية انتماء و هي حيز جغرافي للعمل المشترك و الحياة المشتركة و الدفاع المشتركة عن مصالح المنتمين إليها .
و بعيدا عن النمط الإداري بجبال خمير فان من يحكم القبيلة في السهول هو الشيخ، شيخ القبيلة الذي يجسد في شخصه وحدة أفراد القبيلة : وحدة الانتماء و الشعور و وحدة المصالح و وحدة المصير.
و لكي يجسد كل هذه المعاني لابد ان يرتقي بشخصه و فعله و رمزيته إلى أعلى درجات التقوى و الورع و الزهد في الدنيا حتى يرسم صورة في ذهن أهله أو مريديه تشعرهم بالاطمئنان إليه و الثقة به.
و كان لمصطلح الشيخ في بدايته معنى دينيا،فشيخ القبيلة ينحدر من عائلة شريفة( اي أنها امتداد لإحدى الصحابة أو المجاهدين اللذين بدؤوا عملية نشر الإسلام في عهد الرسول أو بعده بقليل )
__________________
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 186 , librairie ch.delagrave, paris,1883
و يمكن ان يكون الشيخ صاحب علم و حكمة مالك للمعرفة و مصدر للبركة و مطلع بحكم حكمته على نقائص النفوس و له قدرة على علاجها و هو معرض عن الحياة و زاهد فيها و يمكن ان يكون الشيخ سليل عائلة عريقة قوية بما تملك من أموال و رجال فيستمد شرعيته و سلطته من قوة العائلة و علاقتها بالقبائل الأخرى و قدرتها عل تسيير شؤون القبيلة .
شيخ القبيلة هو إذا,مؤسسة دينية و هو كذلك مؤسسة قضائية و إدارية يدير شؤون القبيلة و يسلط أحكامه القضائية على المخالفين و يجمع الضرائب و يفوض من اجل مصالح قبيلته و يعلن الحرب و السلم .
و يستعين شيخ القبيلة بالمقدم و هي وظيفة تمنح لشخص يكلف بإدارة شان زاوية القبيلة من حيث الصيانة و التأثيث و إيواء طلاب العلم و معلميهم و رعاية المناسبات الدينية و التنقل بين العروش لإبلاغهم بقرارات شيخ القبيلة و هو الوسيط الرسمي بين الشيخ و عروش القبيلة .
و تعد الزاوية التي يمكث بها الشيخ او ينزوي إليهالقصد التعبد هي مركز السلطة التنفيذية و هو المكان الذي تتوفر فيه المعلومة السياسية و الاقتصادية.
يبدو إذا ان إدارةالشأن العام في سهول مجردة كانت تعتمد على كاريزما بعض القيادات التي تستمد شرعيتها من البعد الديني أو الوراثي و ان شرط القبول الإرادي لفدى العشائر بهذه السلطة قد تسمح بعدم تعطل الوظائف الاجتماعية داخل القبيلة كما ان تمثل لهذه السلطة الأبوية كان يرتكز على البعد الديني و الأخلاقي مما يجعل من الخروج عن الجماعة فعلا مرفوضا و مدانا يمكن ان يسبب لصاحبه قلقا داخليا و شعورا بالذنب بينما يوفر القبول بهذه الإرادة (السلطة) الأبوية و الانتماء إليها و الافتخار بذلك راحة نفسية و شعورا بالاطمئنان عكس قبائل خمير حيث تستمد السلطة شرعيتها من فعل عقلاني لمجموع أفراد العشيرة ثم القبيلة و هو ما قد يسمح للفرد بالتعبير عن إرادته ضمن مجلس الجماعة من خلال حق اكتساب عضوية المجلس و حق التصويت الحر.
و الملفت ان كاريزما الأشخاص التي كانت تعتمد عليها قبائل سهول مجردة لإدارةالشأن العام لم تكن كاريزما قوية إذ ان قوة الشخصية و جاذبيتها و قدرتها على الخطابة كانت غائبة بل كان شيخ القبيلة قليل التواصل مع الأفراد و يوكل هذه المهمةإلى المقدم إذا كان الشيخ شيخ زاوية أو احد المساعدين أو المقربين إذا كان الشيخ متحصلا على هذا المنصب بحكم انتمائه إلى أقوى عائلات القبيلة و يبدو ان صفات الرجل الكاريزماتي لم تكن مطلبا اجتماعيا ملحا ، ترتكز عليه القيادة و تستمد منه شرعيتهــــــــــا
و يعود ذلك في رأيي إلى ضعف إرادة الأفراد اللذين كانوا يعانون الأمية و الجهل و تغلب عليهم نزعة التسليم لقوى خارقة يعتقدون في قدرتها على التأثير في مجريات حياتهم،و في صحتهم و مرضهم في رزقهم و فقرهم و كان مفهوم القدرة الإرادية غائبا لدى الفرد ، بل مستهجنا و لو حصل للفرد أن خالف القواعد العامة و لو سره فان الولي الصالح (الجد الأعلى للقبيلة) سيزوره في منامه لمعاتبته أو تأنيبه و يسلط عليه حكما ملزما ليجد الشخص نفسه مجبرا أن يتصدق أو يزور الزاوية طالبا الصفح و متصدقا ببعض المال أو الطعام وواعدا سيده بان لا يعود إلى صنيعه و يبدو أن ضعف الإرادات الفردية و حاجتها إلى رمزية تطمئن إليها قد دفعها إلى القبول* بهذا الشكل من السلطة و تتخيل لها قدرة هي لا تملكها فعلا.
لذلك نرى أن دور الزوايا و قيمتها الرمزية لدى القبائل تجعل منها أو ممن يمثلها أعلى سلطة تحكم القبيلة و تتكثّف في صورتها الرمزية كل معاني القوة و البطش و لكن كذلك البركة و الغير و رضاء الله عن الإتباعو المريدين . و الملفت للانتباه أن الزاوية استطاعت أن تفرض سلطتها حتى على “مجتمع”قبائل خمير إذ بالرغم من تطور مؤسساتها المدنية فقد كان للزاوية حكم نافذ على جميع المؤسسات إذا ما اختلفت هذه المؤسسات و لم تتوصل إلى حل مشترك **.
- نمط عيش القبائل في جبال خمير و سهول مجردة :
- تميز المشهد العمراني في جهة جندوبة بتعايش ، و لمدة قرون نمطين من السكن :
- مساكن مبنية من الطين و ترتكز على أوتاد خشبية و تعود إلى العصور البربرية و تسمى المعمرة أو الكيم.
- خيام جلبتها القبائل العربية معها عند قدومها إلى تونس .
و نظرا لأهمية المسكن و دلالته حول نمط عيش السكان المحليين فإننا سنحاول رصد خصوصياته و من ثمة خصوصيات الحياة العائلية و الحياة الجماعية للعرش أو القبيلة (رغم ندرة الوثائق و المراجع التي تحدثت عن هذا الجانب في تاريخ الجهة ).
*يقول ماكس فيبر ان الهيمنة تتطلب تسليما إراديا من الافراد للاسباب عقلانية او اخلاقية:أنضر كتابه العالم والسياسي
**من القواعد الملزمة لدى مجلس الجماعة، أنه إذا إختلف أعضاء المجلس حول شخصية الأمين، المرشحة، فإن القائم على الزاوية هو من يقدم مرشحا جديدا ولا يسمح لاعضاء المجلس برفضه
يتجمع سكان جبال خمير في قرى صغيرة في أعلى الجبال ، في مساكن تسمى “معمرة “و هي عبارة عن غرف تبنى بأغصانالأشجار و تطلى من الداخل بالطين و تغطى من الخارج بقشور شجر الخفاف و هي مادة عازلة تحميهم من البرد و الحر 1وهناك من حفروا مغاوير في الجبال يأوون إليها.
و يقسّم فضاء المعمرة إلىقسمين :
قسم تأوي إليه الماشية التي يملكونها و قسم لأفراد العائلة و تفصل بين الفضاء المخصص للماشية و الفضاء العائلي جرار المؤونة(قمح، زيت…).و يمكن ان تتكون المعمر من غرفة او غرفتين اواكثر حسب الوظع الاجتماعي للعائلة. و تستعمل “المعمرة” للطبخ و النوم و الالتقاء للسهر بجانب الحيوانات النائمة.
توجد هذه القرى في مناطق جبلية وعرة و ترتبط بمسالك ضيقة و ملتوية لمنع الغارات و يوجد بجانب كل “معمرة”بستان صغير لزراعة الخضر.
و يتعاطى سكان خمير تربية الماشية كنشاط رئيسي إضافة إلى دباغة الجلود و صناعة الصابون الأسود و البرنس و الشاشية و حبال من الصوف أو شعر الماعز و البارود و غراسة الزيتون و الغلال3.
و يتم تسويق هاته المنتجات بالأسواق الأسبوعية بجبال خمير و سهول جندوبة و كذلك بالمناطق المجاورة في القطر الجزائري كما أنهم يمتهنون مهنة حراسة القوافل القادمة من سهول جندوبة في اتجاه المناطق الجزائرية .
و هم يهتمون بالفن و الشعر و يخصصون للشعراء جزءا من ميزانية مجلس الجماعة و يؤثثون كل مناسباتهم الاحتفالية من ولادة الأطفال و ختانهم إلى أعراسهم إضافة الى المناسبات الدينية بفرق العزف التقليدية و تشرف عليها الزاوية . و يبدو أن قساوة نمط العيش في المناطق الغابية و عيشهم على وقع الغارات و الغارات المضادة لم يمنع هذه القبائل من الإقبال على الحياة و البحث عن الراحة النفسية.
_______________________
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 56 , librairie ch.delagrave, paris,1883
2: نفس المرجع, ص 57P.H Antichan ,
3: نفس المرجع, ص 49.H Antichan ,
و لعل إحساسهم بالقوة لقدرتهم على السيطرة على الطبيعة و التغلب على كل معتد خارجي هو سّر شعورهم بالتوازن و الإقبال على الحياة.
أما في سهول مجردة فيسكن أهالي المنطقة “المعمرة” التي تبنى بقوالب الطين أو بالطين المخلوط ببقايا التبن حتى تزيد صلابة و تكون هذه البيوت ذات شكل مربع أو مستطيل و تغطى بالقش و هو غطاء غير سميك من التبن و ترتكز على وتد خشبي في مركز المعمرة و هي بيت واحد يأوي العائلة مع ما تملكه من حيوانات ومؤنة و يمكن أن تتكون المعمرة من غرفتين أو ثلاثة حسب الوظع الاجتماعي للعائلةو تشبه في شكلها الدار العربي .
و يبدو أن جزءا من سكان السهول كانوا يسكنون الخيام كذلك و هي نمط من السكن الذي جلبته القبائل العربية معها. وقد استبدلوا في معظمهم الخيمة بالعمرة1أو الدار العربي (بالنسبة للميسورين)و هي عبارة عن مجموعة من البيوت تفتح كلها على فناء في الوسط2.و تبنى بالطوب الذي يقع طلاءه من الداخل و الخارج و تنقسم الدار العربي إلى بيوت للنوم ، بيت للمؤونة و مطبخ . و يحدث أن تجد بجانب الدار العربي بيتا للضيوف و هناك من السكان من احتفظ بالخيمة الى جانب المعرة يستعملونها اذا تنقلوا أو عند اشتداد الحر.
و بجانب الدار العربي أو المعمرة يتم تسييج مساحة(زريبة)3 بالنباتات الشوكية أو بالّطوب (طابية) و يخصص لايواء الماشية .
___________________
1: jean pancet, ‘paysage et problemes ruraux en tunisie’, P.U.T, Faculté des lettres et sciences humaines tunis, p70
2:نفس المرجع السابق ص 20Pierrebardin ,
3: نفس المرجع السابق ص68Jean poncet
يعيش سكان السهول في تجمعات تسمى الدوار* و توجد هذه التجمعات على أراضي يملكونها بالإرث أو الشراء و هي أراضي مشاعة بين أفراد العشيرة أو العائلة و يتم تقسيمها بالاتفاق الشفوي ، على قاعدة التوريث الإسلامي و لم تكن بينهم عقودا مكتوبة تنظم و توثق التنظيم العقاري بينهم .
كان كل منزل داخل التجمع يختص ب” سانية ” صغيرة مسيّجة بشجر الهندي أو النبتات الّشوكية و بها بعض الأشجار المثمرة و الخضر الفصلية للاستهلاك العائلي إضافة إلى بعض الزراعات القليلة التداول بالأسواق مثل التّابل و الكروية و الحلبة 1.
و يمارس سكان السهول نشاطهم الفلاحي على أراضيهم الملاصقة للتجمع و على مساحات متفاوتة الأهمية حسب مواقع الأفراد و التحالفات العائلية الداخلية و هي تتراوح بين الهكتار و أحيانا اقل إلى عشرات الهكتارات و قد تصل ملكية بعض العائلات إلى مئات الهكتارات .
و يتعاطى السكان نشاطا فلاحيا يرتكز أساسا على زراعة الحبوب و غراسة الأشجار المثمرة و الخضراوات و تربية الماشية.
و يمارس كل أفراد العائلة نشاطا إنتاجيا منذ حداثة سنهم إذ يكلف الأطفال برعاية الماشية تحت رعاية الجد أو الجدة بينما تؤمن المرأة كل شؤون المنزل من طبخ و تنظيف و جلب الماء و رحي القمح…و عندما تنتهي من مهامها المنزلية تلتحق بالحقل لمساعدة زوجها.و بالنسبة للعائلات التي تمتلك مساحات فلاحية هامة فإنها تعتمد أساسا على صنف من العمالة يسمى “الخماسة”** و هم فئة لا يملكون أراضي فلاحية أو ملاكين صغار لا تكفيهم محاصيلهم السنوية فيلتجئون إلى هذا الصنف من النشاط الفلاحي لمساعدة الملاكين الكبار على الحراثة و الزراعة و الحصاد و غراسة الأشجار المثمرة و رعاية الماشية مقابل اجر يدفع على أقساط حسب حاجة العامل أو دفعة واحدة في آخر كل موسم فلاحي .
______________________
*: الدّوار: تجمع سكني لمجموعة من العائلات يجمع بينها رابط دموي.
1:نفس المرجع السابق ص 16Pierre Bardin ,
**: الخماس: هو عامل فلاحي يربط بعقد شفوي مع مشغله, ليعمل لفائدته طيلة الموسم الفلاحي مقابل خُمس المحصول.
و إلى جانب الأنشطة الفلاحية كانت العائلات تمتهن بعض الأنشطة الصناعية مثل النسيج (صناعة الأغطية و القشابية و البرنس…) و الصناعات الخزفية أو الطينية (صناعة أدوات الطهي و الأكل مثل : الغرفية و الصحفة و المثرد و البرمة و الشبرية …)1 و بعض الصناعات الأخرى مثل صناعة الجلود و رحي الحبوب…
و بالرغم من أن فترة البايات أي منذ بداية القرن الثامن عشر كانت فترة ركود و انحدار اقتصادي فإن هذه الجهة قد حافظت على دورها كأهم منتج فلاحي في البلاد و كانت الثروات المنتجة تزّود عاصمة البلاد و جهات الوسط والساحل و الجنوب و بعض جهات القطر الجزائري .
و لم يكن للعلم مكانا في هذه الجهة الغابية و الفلاحية ،إذ كما رأينا في مناطق خمير تكتفي العائلات في سهول مجردة بإرسالأبنائها(وخاصة الذكور) إلى الكتاتيب و كان ميسوري” الدوّار ” يتكفلون ببناء بيت متوسط الحجم يقوم عليه مؤدب *و يتولى تدريس بعض السور القرآنية لأبناء “الدوّار” مقابل بعض المال و الأطعمة و سريعا ما يغادر الأطفال الكتاب ليتولوا مهمةرعاية الماشية ويواصل عددقليل منهم من أبناء الميسورين تعلمهم بالزوايا أين يتم تحفيظهم السور القرآنية و العلوم الشرعية و الكتابة.و كان التعليم تلقينيا2 و لا علاقة له بواقع السكّان المادي أو المعرفي.
و كان الوضع التعليمي بالجهة سطحيا بل شكليا و لا علاقة له بالعلوم الحديثة لتلك الفترة وكان ذلك نتيجة طبيعية لعلاقة الصراع الدائم بين قبائل المنطقة و السلطة المركزية حيث نتج عن هذه العلاقة نفورا متواصلا من قبل السكان الجهة من العاصمة و مؤسساتها بما في ذلك المؤسسات التعليمية كجامع الزيتونة الذي كان يقدم تعليما متنوعا يؤهل الأفراد في تلك الفترة ليتولى وظائف اجتماعية متعددة .
و كان الفكر السائد في سهول مجردة فكرا روحانيا متعلقا بالزوايا وبرمزيتها الخارقة وبالقدرات الربّانية للشيوخ و الأولياء الصالحين’ يأمل في رضاهم و يقدم الهدايا و الاضحيات لنيل هذا الرضا يطلب مساعدتهم عند المرض و انحباس الأمطار و عند طلب الزواج و البحث عن الرّزق .
___________________
1: نفس المرجع السابق ص 26Pierre Bardin ,
*: المؤدب, (المدّب): هو شخص حافظ للقرأن ويتولى تعليمه، خاصةً للصغار بالكتاب أو الزاوية ويمكن أن يقوم كذلك بمعالجة بعض الأمراض بإستعمال الحشائش والتعاويذ و ابرام عقود الزواج شفوياً ويتولى اشهارها بحضور الأهالي، كما أنه يؤم الناس عند الصلاة ويشرف على دفن الموتى والدعاء لهم بالمغفرة. وهو كذلك يقرأ الفاتحة على المواليد الجدد لتحل بهم البركة.
2:P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 28-39 , librairie ch.delagrave, paris,1883
و قد تحولت الزوايا في تلك الفترة إلى مركز للحياة الاجتماعية و السياسية يلتقي بها أبناء العشائر للاحتفاء بالجد الأعلى، الولي الصالح (سيدي عبيد، سيدي بن عياد، سيدي صالح البلطي…) فتقام الاحتفالات و تتجمع العائلات قصد الزيارة و كذلك للتعارف و التزاوج و لطلب الشفاء و لسماع آخر الأخبار في البلاد و كذلك لعقد الاتفاقات الفلاحية و التجارية .
و كان القائمون على الزوايا و الكتاتيب من شيوخ و مقدمين و مؤدّبين يؤمنون عدة وظائف اجتماعية تعليمية و اشفائية و قضائية و مدنية ، حيث كانوا إضافة إلى العملية التعليمية ، يقدمون وصفات علاجية تعتمد على الأعشاب “الطبية ” و بعض التعاويذ المكتوبة بخطوط غير مفهومة و كانوا يسهرون على فظ النزاعات بين و العائلات و تامين عمليات الزواج و الطلاق.
و ستضمحل هذه الأدوار مع انتشار التعليم في الفترات الأخيرة (القرن التاسع عشر) و سيبرز فاعلون اجتماعيون جدد مثل عدول الإشهاد و أعيان العروش و القضات الشرعيون الذين سيجمعون بين الوضع الاجتماعي و الاقتصادي المتقدم و بعض التعلم الزيتوني الذي سيتلقونه في جامع الزيتونة أو بعض المؤسسات التابعة له بكل من جهة الكاف و باجة.
قبائل جندوبة في مواجهة دولة البايات :
كانت علاقة سكان جندوبة بدولة البايات علاقة عدائية منذ بدايتهالأنها كانت مبنية على الابتزاز و الهيمنة العسكرية من أجل نفس الغاية حيث لا تجد في جندوبة خاصة أي اثر عمراني أو اقتصادي أو ثقافي لحكم دام أكثر من ثلاثة قرون.
كانت السلطة المركزية غريبة عن البلاد إذ كانت في عهد الدايات ثم البايات تتكون من الأتراك و المماليك و كانت عساكرها أتراك و أسبان و من جنسيات أخرى و كان السكان الأصليون لا يحضون بالثقة و لا يمكنهم تولي خطط عسكرية.و لم يكن امن هذه المناطق يهم إلا بقدر الحفاظ على مصالحهم المادية.
و قد عمد البايات في إطار محاولة إخضاع هذه المنطقة للسلطة المركزية بأن قسموا جهة جندوبة إلى اربع قيادات و هي” قيادة بوسالم و الشيحة ” ، “قيادة جندوبة” قيادة عين دراهم “، قيادة الرقبة أولاد سدرة” ، لفرض رقابة عسكرية و مدنية و ما نعلمه عن هذه المؤسسات انها لم تجلب معها المؤسسات التعليمية أو الصحية و لم تخلق تنظيما إداريا و لم تساعد على تطوير العمل الفلاحي بل كان القياد في اغلب الوقت من المماليك و يقيمون بالعاصمة و كان الخليفة و الشيخ مكلفان بتنفيذ إرادة القايد و “سيدي الباي ” علما أن هذه الإرادة لا هم لها سوى الحرص على جمع العشر* أو المكس**أو الضريبة على الدخل1. و كانت القيادات ،عبر الخليفة و العسكر المرافق له ،يراقبون تحركات القبائل و يرصدون تحركاتهم و خطبهم و طبيعة مزاجهم و يبعثون بتقارير دورية إلى السلطة المركزية و كانت هذه التقارير تتحدّث عن المحاصيل و عمليات البيع و الشراء بالأسواق و يدور بها من أحاديث و ترصد مواقف بعض الأعيان اللذين يتحدثون أمام الملإ معبرين عن ضيقهم من تفاقم الجباية و ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية.
يقول الدكتور رضا العشي لقد تحولت وظيفة الدولة إلى “قوة ضغط لا قوة حماية ” 2، مختصرا بذلك كل السرد التاريخي للأحداث، و الوصف للعلاقة بين المركز المهيمن (الذي يعتمد في ذلك على شرعية دينية و عسكرية ).و باقي الجهات التي كانت تراوح بين الخضوع و التمرد.
و رغم عدم رغبتنا في الانغماس في السرد التاريخي للأحداث التي توالت في تلك الفترة ، إلا أننا سنتوقف عند البعض منها سريعا لاستجلاء طبيعة العلاقة بين دولة المركز و قبائل جندوبة .
________________________
*: الخليفة : رتبة عسكرية تسند لشخص يساعد القايد في الجهة لجمع الجباية والاتصال بالمشايخ ولاعب دور الأمني.
**: العشر : هي ضريبة تفرض على الإنتاج العيني ومقدارها عُشر المحصول.
****:المكس: هي ضريبة يدفعها زائري الأسواق الأسبوعية مقابل ما يبيعونه.
1: سالم كرير المرزوقي, أضواء على التشريع المالي التونسي 1861-1996 , شركة أوربيس, ص 14, 1996, تونس.
2: رضى عشي, نفس المرجع السابق , ص 43.
كانت قبائل سهول مجردة العليا تسمى قبائل مخزنية * ، تعرف بخضوعها للسلطة المركزية و التزامها بدفع الجباية مقابل الحفاظ على استقرارها و سلامة أملاكها . غير أن هذا الهدف لن يتحقق لها بسبب الفساد الذي تميزت به دولة المركز و يبدو أن العنف الذي مارسته العائلة الحسينية لابتزاز الفائض أصبح قاعدةعلى قرابة قرنين1 و قد أدّى هذا الفساد إلى انهيار الدّولة و لجوء البايات إلى الاقتراض الخارجي و ابتزاز الأهالي 2 و مضاعفة المجبى.
كما عمد البايات إلى افتكاك الأراضي الخصبة من أهاليها في كل من جهة بوسالم و سهول جندوبة و غار الدماء و قد وصلت أملاك خير الدين باشا في بوسالم إلى 9640 هك إضافة إلى آلاف الهكتارات الأخرى بالجهة التي استولى عليها البايات و المماليك .و هو ما سيؤدي إلى تحويل ثروات الجهة بشكل مباشر إلى العاصمة و يحول آلاف العائلات من عائلات فلاحية ناشطة و منتجة تتميز بالاستقرار إلى جيوش من الأفراد المفقرين و سينتج عن هذا الوضع حالة من عدم الاستقرار و النزوح في اتجاه الهضاب و الغابات و المناطق المجاورة و تفكك عائلي و عشائري و اندثار تدريجي لمهارات في العمل الفلاحي و الصّناعي و تدهور لنسيج اجتماعي كانت مرجعياته الأرض و زاوية العشيرة أو القبيلة و مجموعة من العادات و التقاليد التي كانت بمثابة الاسمنت التي يثبت العلاقات الاجتماعية.
كتب كمبيون و هو جنرال فرنسي “أن الأعرابي يطلب من سادته أن لا يثقلوا كاهله بالضرائب …و ان تكون العدالة التي تطبق عليه على مقربة منه …و خالية من التشعب3.
لقد تمسكت قبائل المخزن ، خاصة بمخاطبة البايات عبر رسائل مكتوبة و عبر شيوخها للمطالبة بتخفيف الجباية و رفع المظالم عنها و قد رصدنا من خلال المراجع التي توفرت لدينا عددا مهما من المراسلات الكتابية و الشفاهية التي يبعث بها سكان سهول مجردة إلى السلطة المركزية ، رغبة في محاورة الحكام و إقناعهمإما بسوء أوضاعهم الاقتصادية أو بتسّلط القيّاد أو فساد أعوانه ، دون جدوى .
_________________________
*: قبائل المخزن :هي صف تطلق على بعض لقبائل العربية التي قدمت الى تونس من مصر وتملكت بالاراضي مقابل
إلتزامها بدفع الجباية وكسر شوكة القبائل الرافضة لدفعها
1: رضا عشي: نفس المرجع السابق, ص 46
2: رضا عشي: نفس المرجع السابق, ص 48
3: رضا عشي: نفس المرجع السابق, ص 45
لذلك انتفض السكان على السلطة المركزية و امتنعوا عن دفع الجباية و قد تراوحت ردود فعلهم بين الفرار إلى جبال خمير و حملهم ماشيتهم و محاصيلهم أو البقاء في أراضيهم مواجهة القايد و الخليفة و أعوانهم إلى غاية اندلاع ثورة علي بن غذهم سنة 1864 . يقول د.رضا عشي و قد برّر عامل جندوبة هذا الرّفض بتأثير بعض المشاغبين و السفهاء على ذهنية السكان و سلوكاتهم في فترة تعاطف فيها بعض أعيان جندوبة و أطرافها مع انتفاضة 1864 وواصلوا إلى حد التحالف مع قائدها على بن غذاهم بالجهة و خاضت صراعات مع ممثلي السلطة المركزية ، مما أدى إلى تفاقم أزماتهم الاقتصادية و الاجتماعية و انتشار الفقر بين السكان و التجأالأعيانإلى رهن أراضيهمإلى الجرابا و توقف أعمال التجارة و تقهقر المحصول الفلاحي .
و قد دفع تردي الوضع الاقتصادي لقبائل الرّقبة (أولاد سدير،حكيم و أولاد سلطان و آخرون) إلى الهروب إلى الجبال بمحاصيلهم و ماشيتهم . في مراسلة إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار يذكر عامل الرقبة انه : “لما بلغ لنا الأمر…اطلعنا عليهم أحبابنا المشايخ و الأعيان…فأبوا الامتثال و الطاعة ” 1 و سيتواصل هذا الوضع المتردي و عمليات الكرّ و الفرّ إلى فترات زمنيّة طويلة ، كانت نتيجتها تفكيك الأراضي و العروش و العائلات و تحطيم عملية الإنتاج و النسيج الاجتماعي و الاقتصادي في آن واحد.
أما قبائل خمير فقد تميّزت برفضها الدّائم لدفع الجباية و التحصّن بالجبال في مواجهة عساكر المحلّة بل وصل بهم الأمر إلى مجابهتها و التغلّب عليها فقد تميزت هذه القبائل بــ” تفردهم عن المجتمع و توحّشهم في الضّواحي و بعدهم عن الحامية …قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يوكلونها إلى سواهم…فهم دائما يحملون السلاح و يلتفتون في كل جانب”2.
و قد تصدت هذه القبائل خلال فترة حكم احمد باي إلى محاولة إخضاع بالقوة من قبل كاهية باجة و كاهية الكاف “فكان أن قامت بغارات مكنتها من هزم عساكر الباي و سلب المدينة 3
_____________________
1: رضا عشي نفس المرجع السابق ،ص 132
1: رضا عشي: نفس المرجع السابق، ص 120.
2: : رضا عشي: نفس المرجع السابق، ص 120
و قد تواصل هذا الصراع أمدا طويلا و لمّا عجز حكم البايات عن إخضاع هذه القبائل فقد استعانوا “بالفرق العسكرية الفرنسية المرابطة على الحدود الجزائرية حيث تمت محاصرة قبائل خمير من جهة البحر و من كافة الجهات البرية بجيش من الفرنسيين و عساكر الباي1 و بعض القبائل المتحالفة مع الباي من جهة عمدون و تم قطع طرق الإمداد عنها و انتهت الصراعات بين الطرفين بأن قبلت أن تدفع جزءا ممّا طلب2.
__________________
1: P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 79 , librairie ch.delagrave, paris,1883
2:P.H Antichan , ‘les pays des khroumirs’ , page 78 , librairie ch.delagrave, paris,1883
خلاصة :
لقد عانت هذه المنطقة طيلة ثلاثة قرون الأخيرة من تكالب البايات على ما تبقى من ثروات طبيعية و من الهجمات المتكررة من قبائل الوسط و الجنوب و قبائل الشرق الجزائري إضافة إلى قبائل خمير التي كانت كلها تبحث عن مصدر رزق .
و يبدوأن ملامح “الشخصية الجماعية ” للأهالي قد تشكلت من خلال هذه التجارب الجماعية فقد تحوّلت قبائل جندوبة من مسالمة و منفتحة على الآخر كما وصفها ابن خلدون إلى قبائل منغلقة على ذاتها تتميز بالنّفور من الآخر و العزوف عن العمل بالسهول لعلمها بأن نتائج عملها لن تكون من نصيبها .
لم تكن قرطاج عاصمة البلاد أكثر شهرة من بلاريجيا المدينة الرومانية و لا شمتو عاصمة الرخام النوميدي الذي أثث قصور و كنائس أوروبا .كما كانت سهول جندوبة هي الطريق التجاري الوحيد بين قرطاج و بونا(عنابة) و كانت هذه السهول تسمّى مطمورة قرطاج ثم روما و مطمورة عصر البايات .
غير أن عصورا من الحروب و الأوبئة التي أبادت حوالي نصف سكان المنطقة ، خلفت واقعا ماديا جديدا أنبنى على ثنائية الغنى(غنى المدينة) و الفقر، الحاضرة و البداوة ، التحضر و الجهل ، القوة و الضعف و أخيرا ثنائية الحركة (حركة الحضر) و الجمود أي جمود البادية.
و سَتَسـْطوطن هذه الصّورة في اللاّوعي الجماعي في العاصمة والمدن الكبرى و عند أهالي جندوبة و ستتجسّد في عدة أشكال من السلوكات الفردية و الجماعية من أوّل النظرة عند المصافحة أو اللقاء و التي عادة ما تتسم بالتعالي أو اللامبالاة ( من جانب اىخر) إلى غاية النكتة و الحكاية الشعبية و الإشاعة و التصوّر الانطباعي عن اهالي المنطقة ممّا سيؤثر على كل التعامل المشترك عند بناء الدولة الحديثة .
لقد رأينا من خلال متابعتنا لتاريخ جندوبة، ان سكانها الأصليون كانوا يسكنون بجبال خمير و الهضاب المتاخمة لسهول مجردة العليا ،و أنهم اكتسحوا هذه السهول شيئا فشيئا بمعية القبائل العربية التي قدمت منذ منتصف القرن الثاني عشر.
وان مؤسساتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الدينية قد تغيرت عبر قرون و غيرت فوائضها ،تأثرا بكل المتغيرات التاريخية التي طبعت تاريخ الجهة ،إلى ان التقت بالحضارة العربية التي يبدو أنها احتاجت إلى أكثر ن سبعة قرون لدمج كل المجموعات بالجهة ضمن إطارها وثقافتها ،رغم سرعة اعتناق السكان للدين الإسلامي .
و قد كانت فترة البايات، مرحلة جدية حملت معها متغيرات جديدة ستؤثر على مستوى عيش السكان و استقرارهم : كانت الجباية مفهوما لم يستوعبه السكان المحليون و لم يسلموا شرعيته خاصة في المناطق الجبلية كما كان لظهور الجيوش النظامية تأثيرا سلبيا على علاقة السكان بالسلطة المركزية .اللذين كانوا يتحصنون داخل مدنهم التي تختلف في معمارها و شكلها ووظائفها و رمزيتها في الفضاء البدوي للسكان المحليين حيث بدأ يتأسس صراع من نوع جديد و هو صراع الحضارة المتفوقة حضاريا و معماريا و عسكريا على البادية .
يتحول الصراع من صراع بين قبائل الجهة و بينها و بين القبائل الغازية حول الأرض و الثروة مع الحفاظ على ثقافة مشتركة، لا سيد فيها و لا مسود إلى صراع البدو الذين يدافعون عن وجودهم و مصالحهم مع الحضارة المنتصرة ثقافيا و سياسيا و عسكريا.
الحضور الفرنسي:
في نفس تلك الفترة كانت فرنسا تعيش ثورة اجتماعية رافقتها ثورة صناعية احتاجت بموجبها إلى مصادر جديدة للطاقة و الثروات و أسواق جديدة لسلعها و أعلنت احتلالها لتونس في شهر ماي 1881 و تحول الحكم إلى حكم مزدوج بين البايات و السلط الفرنسية .
و كانت لفرنسا أهداف اقتصادية محددة في الجهة تتمثل في استخراج : الزنك و الرصاص و النحاس و الزئبق و استغلال الثروات الغابية و الغابية بالسهول لذلك تسارعت بمد خط السكة الحديدية بين غار الدماء و تونس العاصمة و كذلك طبرقة بنزرت و تم في مرحلة ثانية ربط جندوبة بالعاصمة عبر طريق معبدة و ربط جندوبة بعين دراهم و طبرقة و شرعت في أشغال مناجم :جبل الديس و جبل حلوف و سيدي بوعوان و الشويشية ، و سارعت إلى تأسيسمراقبة مدنية بجندوبة .
و بناء ثكنات عسكرية و استولت على حوالي 30 ألف هك من الأراضي الخصبة و أدخلت أساليب حديثة على العمل الفلاحي يعتمد على المكينة.
و أسست مراكز حضرية جديدة لفائدة الجالية الوافدة على الجهة و هي غار الدماء و جندوبة و بوسالم .و أدخلت خدمة البريد و الصحة و التعليم (لأبناء المعمرين) و إدارة الفلاحة و التجهيز و إدارة الغابات كما بنت الحدائق العمومية و ملاعب التنس و الكرة الحديدية…و ظهرت المقاهي و الحانات و تواترت مظاهر الاحتفال الفني في المناسبات الرسمية الفرنسية.
حدث كل هذا التغيير ضمن بيئة قبلية تتسم بالبداوة و تحتاج إلى الوقت و الظروف الملائمة لاستيعاب المفاهيم و التقنيات الجديدة التي غيرت علاقة الإنسان بالأرض و بالمسافات و الزمن كما غيرت فهمه للتعلم و الصحة و إدارة شؤون السكان و الطبيعة المحيطة به.
لقد كانت طبيعة العلاقة بين سكان جندوبة و المستعمر الفرنسي علاقة صراع كتب عنها المؤرخون ووصفوا أحداثها .غير ان ما يهمنا في هذا البحث هو السعي لفهم طبيعة و اتجاه التغيرات الاجتماعية و الثقافية و مدى و مدى تأثير الحضور الفرنسي على المؤسسات الاجتماعية التقليدية و على مسار التطور الطبيعي لهذه المجموعة السكانية.
دخلت ،اذا الجيوش الفرنسية التراب التونسي يوم 14 ماي 1881 من جهة غار الدماء و الكاف و بنزرت بعد ان قامت بمحاصرة طبرقة من البحر و هما جهة منطقة خمير بالمدفعية البحرية و الهجمات البرية من جهة الجزائر لمدة شهرين ،تقريبا بجيش يتراوح عدده بين 25 و 35 ألف جندي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
عبد الحميد الهلالي :جندوبة 1881-1956 ،ص 58-59
عبد الحميد الهلالي :المرجع السابق ص 58
و فرضت نظام حماية على تونس ،ـ يعتمد على سلطة إدارية و سياسة مزدوجة ، يمثلها المقيم العام الفرنسي من جهة و باي تونس من جهة ثانية .و سرعان ما ستتحول السيطرة العسكرية و الادارية و السياسية إلى المقيم العام الفرنسي و إدارته التي سيتم تركيزها بكل الوزارات و الإدارات المركزية و الجهوية ستباشر السلط الفرنسية تنفيذ مخطط دقيق لاستغلال الثروات الوطنية طبقا لاتفاقيات مبرمة سلفا مع باي تونس .
فقد بادرت فرنسا بمد سكة حديدية تربط القطر الجزائري بالعاصمة تونس مرورا بغار الدماء و جندوبة و باجة منذ 1877 ،علما منهم بأهمية الدور الذي ستلعبه السكك الحديدية في تغيير المعطى السياسي (هيمنة عسكرية)و الاقتصادي* و تم فتح محطة النقل بغار الدماء “لاقار” يوم 30-03-1880 ، ثم تم فتح محطة جندوبة و بوسالم و تركيز وحدات عسكرية لتامين الخط الحديدي من التخريب و نقل المواد الفلاحية و المستخرجات المنجمية الى موانئ حلق الواد و بن عروس ،كما شرعت في فتح طريق سنة 1882 ،تربط جندوبة بعين دراهم ثم طبرقة لاحقا لتمكن من النفاذ الى جبال خمير و إحكام السيطرة عليه و إفساح المجال أمام الفرنسيين لاستغلال مادة الخفاف و الخشب و المواد المنجمية ، ثم فتحت طريقا رئيسا يربط جندوبة بتونس العاصمة و على طول 150 كلم :حيث كانت الطريق عبارة عن سلط ترابي لا يصلح للنقل:
« Le réseau de transport …………. Etait formé par un ensemble de pistes et d’itinéraires ….m’achevés et incomplets »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
عمر بالهادي : السكك الحديدية و الفضاء في تونس ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بتونس ، المطبعة الرسمية ، ص31،1980.
عمر بالهادي : السكك الحديدية و الفضاء في تونس ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بتونس ، المطبعة الرسمية ص 32.
*يقول الدكتور عمر بالهادي « les infrastructure permettent de contrôler l’espace dans la mesure ou il n’est: maitrisable que l’ors qu’il est rendu accessible, or une fois accessible, l’espace est obligatoirement politisé »
[1]:عبد الحميد هلالي : المصدر السابق، ص95. [1]:عمر بالهادي : المصدر السابق ص 21.و سعيا لتوفير الخدمات الضرورية “للمعمرين” اللذين بلغ عددهم 240 معمرا (و يستغلون 30.235 هك) ، إضافة إلى الإداريين و العسكريين و التجار الفرنسيين و الايطاليين و عائلاتهم فقد أحدثت السلطات الفرنسية مركزا حضاريا أول ،و هو مدينة جندوبة ببلديتها سنة 1887 و نقلت السوق الأسبوعية من منطقة ربيعة المحاذية لبلاريجيا إلى جوار القرية الجديدة و انشات مركزا بريديا و مستشفى محليا و مدرسة للذكور و سرعان ما تم انجاز أول نزل و مقهى و حديقة عمومية و بناء ملاعب للتنس و الكرة الحديدية ، لفائدة 4700 أوروبي ، منهم حوالي 1800 فرنسي .
و في سنة 1892 تم تركيز بلدية عين دراهم ثم طبرقة سنة 1896 و أخيرا بوسالم و غار الدماء سنة 1905 و تم إنشاء مصالح خدمية بها كذلك .
كما سارعت السلطات الفرنسية ،منذ شهر ديسمبر 1886 إلى تركيز مراقبة مدنية بالجهة و ألحقت بها قيادات : سوق الأربعاء و عين دراهم و غار الدماء و بوسالم ليتحول القياد إلى مصالح ثانوية تحت إمرة المراقب المدني.
و تم تعزيز دور المراقب المدني ببعث مصالح فنية جهوية مثل الإدارة و إدارة الفلاحة و إدارة الغابات .يقول أحمد القصاب عن مدينة جندوبة
Des 1887, elle fait figure de capitale administratif
et régionale elle abrite les services administratifs, mais aussi techniques…..les constructions n étaient jusqu’à la veille du premier genre mondiale que de modestes banques en bois qui abritaient une population en majorité étrangère ….le secteur artisanal comprenait…les métiers : charpentier, briquetier, charron, cordonnier, menuisier, ébéniste, peintre, selliers –bourreliers, tailleur, horloges maçon, fabricants de glace . “
لقد أدخلت فرنسا مفاهيم جديدة، للفضاء العمراني و لوظائفه و لعملية الإنتاج التي تحولت من الاعتماد على الفرد إلى تكنيك المكينة و التعلم و الصحة و الإدارة و علاقة الإنسان بالزمن و المسافات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
[1]: عبد الحميد هلالي ،نفس المصدر السابق ص 107 [1]:عبد الحميد الهلالي ، نفس المصدر السابق ص 615-616. [1] : عبد الحميد هلالي نفس المصدر ص 84 .أحمد قصاب، نفس المصدر السابق،ص 615-616
فهل تحولت بذلك جهة جندوبة بقبائلها و عشائرها البدوية إلى عصر الثورة الصناعية و التحضر العمراني و التنظيم الإداري……؟
لقد كانت جهة جندوبة “البدوية”(كما كان يسميها الحضر و كذلك المؤرخون و الدارسون ، على قلتهم ، في دراساتهم) ، جهة مستقرة نسبيا في أواخر القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر ، تتميز عن بقية الجهات بوفرة إنتاجها ، يقول أحمد القصاب:
Les région de la moyenne Medjerda apparaissent aussi à la veille du protectorat nettement plus prospères que la bled Beja …les officiers des affaires indigènes out tous signalé la grande extension des cultures… sur les terre de Jendouba …et l’importance de leurs souks hebdomadaires »
سنتوقف الآن ، سريعا عند الجانب السوسيولوجي لهذه الجهة و الذي حاولنا تعقب خصائصه منذ العهد النوميدي ، و سنحاول التعرف على الأبعاد الثقافية و الاجتماعية لسكان جندوبة ن في أواخر عصر البايات بالاعتماد على قراءة و تحليل مفهوم البداوة الذي صار الصفة الأكثر استعمالا عند الحديث عن سكان الجهات الداخلية و جهة جندوبة لكي تستطيع فهم العلاقة التي ستنشأ بينهم و بين المستعمر الجديد
البدو هم العرب أو الأعراب الذين يسكنون مناطق بعيدة و منعزلة عن مناطق العمران و هم عندنا ،سكان الريف ،و البدو كما عرفهم ابن خلدون سابقا و كما وصفهم عبد الحميد الهلالي و رضا العشي و جان يونسي بيار باردان و غيرهم ممن اهتموا بهذه المنطقة أو المناطق النائية الأخرى و التي و التي تشترك مع جندوبة في بعدها عن المراكز الحضرية الكبرى ،هم مجموعات بشرية ،تعتمد نمط حياة بسيط في المسكن واللباس (غياب مظاهر البذخ ) و في نظامها الغذائي (غياب التنوع و الكثرة )و نسق الحياة عندهم يتناغم مع محيطهم الطبيعي .
و يسير على وقعها ، و يغيب عندهم التنظيم العمراني و الاستقرار الدائم و لا يهتمون بالتعليم لذلك تنتشر بينهم الأمية و الجهل بشروق الصحة و التنظيم الإداري … و باختصار هي مجموعات بشرية تتسم بالشيخوخة و الأمية و الالتصاق بالطبيعة و العيش على نسق عناصرها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
[1]: احمد القصاب : نفس المصدر السابق، ص 87هذا مثال نموذجي لصنف من السكان يتواجدون بالمنطقة العربية فيوصفون بالبدو ،سنعتمده ،دون حكم على الأوصاف و التصنيفات التي يتضمنها بالسلب أو الإيجاب ،و نود أن نضيف انه من خلال بحثنا في تاريخ جندوبة قد لمسنا قدرة سكانها على العمل و الإنتاج و توفير الفائض، و هي خاصية قد لا تتوفر في كل المجموعات البشرية التي تستجيب ، في خصائصها السوسيولوجية ، للمثال النموذجي الذي قدمناه ، غير ان هذا لا ينفي القاعدة ،و إنما نتصور ان ثراء الطبيعة و حالة الاستقرار النسبي ، التي ميزت الجهة ، قد مكنت الإنسان فيها و عوّدته على العمل و الإنتاج و خلق الثروة.
لذلك نتساءل، ماذا لو تواصل نسق تطور سكان هذه المناطق، دون تدخل أو تأثير من عناصر خارجة عن نسقه الذاتي ؟ و هو سؤال مؤجل إلى ان ترى نتائج البحث.
إلا أننا نتساءل الآن عن مال العلاقة بين سكان جندوبة و المتغير الخارجي الجديد اي الاستعمار الفرنسي من خلال ما يطرحه من مفاهيم جديدة للمؤسسات الاجتماعية ،و العمل و التنظيم العمراني و نمط الحياة؟
ان ما تم انجازه من دوائر بلدية و مصالح فنية و مستشفيات محلية و مدارس تعليم (و هو إنتاج لنسق ثقافي ومعرفي غريب عن النسق المحلي) قد كان في قطيعة عضوية مع السكان المحليين ،أولا ، من حيث لغة التخاطب (الفرنسية) الرسمية و التي يحملها سكان الجهة و ثانيا , لان كل ما تم انجازه في المستوى الإداري و الفني , كان يستجيب لحاجة “المعمرين” و عائلاتهم دون غيرهم , إذ كان أعضاء المجالس البلدية فرنسيون (شرط أساسي ) , يتداولون و يصفون التصورات و الخطط للفضاءات العمرانية التي أحدثوها دون تشريك للعناصر المحلية أو مراعاة عاداتهم و نمط عيشهم ، كما كانت إدارة الفلاحة و إدارة الغابات تقوم بدور وظيفي هام لفائدة “المعمرين ” الذين يشتغلون بالسهول أو بمقاولات الأشغال العامة أو مربي الخنازير و مستغلو الغابات بالمناطق الغابية ، حيث تم إصدار قانون الغابات في شهر نوفمبر 1915 ، لمنع السكان من الاستقرار و الرعي و قطع الأخشاب ، و هو ما سيجبر منهم على ترك الغابة و التوجه نحو السهول للعمل “بالخماسة” .
كما ساهمت إدارة الفلاحة في إحصاء الأراضي الخصبة مثل أراضي البايليك بجهة بوسالم و غار الدماء و بعض سهول جندوبة حيث تم شراء ضيعات المرجى من ورثة خير الدين باشا و التفويت فيها “للمعمرين.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
[1]:ماكس فيبير Le savant et le politique: [1]:عبد الحميدالهلالي نفس المصدر السابق، ص 93 [1]: عبد الحميد الحميدالهلالي:نفس المصدر السابق،ص 101 [1][1]: عبد الحميد الحميدالهلالي:نفس المصدر السابق،ص1كما ساهمت هذه الإدارة بمعية المصالح العقارية في استصدار القانون العقاري و السجل العقاري المختلف بتضييق الخناق على الفلاحة الصغار حيث تحولت الأراضي التي يشتريها الفرنسيون إلى أراضي ذات جنسية فرنسية و في حال نشوب نزاع مع فلاحي الجهة فان المحاكم الفرنسية هي المخولة بالنظر في هذه القضايا و هو ما فتح الباب أمام المعمرين ان يستعملوا شتى الأساليب للتضييق على الضيعات المجاورة لها قصد افتكاكها أو طرد السكان المجاورين لهم .
كما سمح لهم أمر 23 ديسمبر 1894 بإكتراء أراضي الحبس* و سميت بعمليات الإنزال .
كما كانت عملية المكينة الفلاحية في تونس و الجهة جد سلبية على الوضعية المالية للمالكين المحليين الصغار الذين وجدوا أنفسهم أمام منافسة شرسة ، كما كانت الغاية منها تفقيرهم ثم إرغامهم عبر القروض المجحفة على بيع أراضيهم و قد تواصل هذا العمل المنظم للإدارة الفرنسية منذ 1881 الى غاية 1956 دون توقف .
يقول جان وينسيه واصفا الوضع الاقتصادي و العقاري في هذه الجهات
« toutes les régions agricoles fortement transformé par les européens opposent ainsi ,à une structure économique très concentrée ,repoussant sur une ou deux activités dominantes, commandées largement par le marché extérieur , une structure traditionnelle émietté, rainée et proprement « marginale » en ce sens qu’elle ne répond plus , ni aux lois de l’évolution moderne ,ni même aux besoin viviers qui en explique cependant le maintien ,cette opposition se trouve sur tous les plans : répartition géographique et foncière, peuplement, habitat ressources, niveaux de vie… »
و سيخلق هذا الوضع فئات واسعة من المهمشين و هي ظاهرة جديدة على المجتمع المحلي ،حيث كان لكل فرد دورا يؤديه في الغابة أو العمل الفلاحي بالسهول ، سواء كان مالك للأرض أو عاملا بها.
ثم تكونت فئات واسعة من المهمشين الذين فقدوا أراضيهم او طردوا من مساكنهم لأنها كانت مجاورة لضيعات المعمرين أو تم التضييق عليهم بالمناطق الغابية ، و قد لجأت هذه الفئات إلى النزوح و الاستقرار على هامش المدن و القرى الجديدة مثل جندوبة و بوسالم و غار الدماء ووادي مليز و فيهم من اتجه نحو تونس العاصمة .و كان الهدف المشترك لكل هؤلاء هو البحث عن موطن شغل*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
[1]: عبد الحميد الهلالي:نفس المصدر السابق،ص102 [1] :يقول عبد الحميد الهلالي ان” ممثلي السلطة يعمدون إلى الحجز و بيع الأملاك و السجن” عندما يعجز الفلاحون الصغار عن تسديد ديونهم .انظر ص 132 كما يذكر عن كتاب تونس الشهيدة ان شركات “الحيطة الاجتماعية تشتري من المعمرين بأثمان مريحة ، القمح الرديء و تمنحه في شكل سلفات بذر للمزارعين المحليين “ص 132 [1] : Jean (P) même référence, P42و لم يكن حض السكان المحليين أحسن حال من حيث الانتفاع بالخدمات الصحية و التعليمية ، و بالرغم من إنشاء مدارس فرنسية منذ 1887 في جندوبة (مدرسة الطيب المهيري لاحقا) و بوسالم سنة 1895 و طبرقة سنة 1888 و عين دراهم سنة 1904 ثم غار الدماء ثم تم في بداية القرن العشرين إنشاء مدارس فرنسية عربية بعين دراهم سنة 1910 و جندوبة سنة 1912 و أخيرا سمحت السلطات الفرنسية بإنشاء أول مدرسة قرآنية بجندوبة سنة 1939 و لم يكن عدد التلاميذ اللذين تمتعوا بالتعليم في المدارس الفرنسية على امتداد نصف قرن يتجاوز تلميذين أو ثلاثة من أبناء الميسورين في السنة كما انه ليست لنا إثباتات ان كان هؤلاء التلاميذ قد تابعوا دروسهم أولا.
كانت فرنسا تعلم ان المعرفة سلاح يمكنه ان يتحول ضدها ،إذا ما امتلكه السكان المحليون فجعلت ن اللغة الفرنسية ، لغة المعرفة و التخاطب ،يتداولها تقتصر عليهم لمدة فاقت نصف القرن منذ 1881.
و رغم ان عملية الإقصاء لأبناء الأهالي لم تكن معلنة إلا أنها كانت ممنهجة إضافة إلى معظم هؤلاء بالأرياف إلى فقرهم و جهل أبنائهم بأبسط قواعد اللغة الجديدة و تكاليف عملية التعلم تجعل من مجرد التفكير بالالتحاق بمدارس المستعمر أمرا مستحيلا .
و قد تمكنت إدارة المستعمر من فرض حالة من التجهيل المتعمد و حولت وجهة السكان نحو الزوايا بعد ان فرغتها من محتواها “النضالي” الذي أبدته عديد الزوايا في مواجهة المستعمر من خلال التضييق العسكري عليها و مصادرة أراضيها و محاصرتها جغرافيا و اجتماعيا و تطويعها إلى دور ووظيفة جديدين تخدم أهداف المستعمر من خلال حصر دورها في احتضان الأهالي و دعوتهم إلى الإيمان “بالقضاء و القدر” و الرضاء بما” كتب الله ” و السعي المستمر إلى إحياء جذوة هذه المشاعر من خلال الاحتفالات “الزرد” و إحياء الطقوس و كانت ادارة المستعمر تسهر على حماية و تشجيع هذه الظواهر” و قد طلبت سلطات الاحتلال في جهة خمير من الآباء البيض و من بعض ضباط الجيش الفرنسي حضور “الزردات” و تقديم الهيبات الى المقدمينالمكلفين بالإشراف على أضرحة الأولياء “
في تلك الأثناء كانت المدارس الفرنسية المحصنة داخل أسوراها تقدم المعرفة لأبناء الجالية الأوروبية ( فرنسين- إيطاليين- إسبانيين…) و كانت المستشفيات شكرا عليهم كما كانت المجالس البلدية في قطيعة تلمة مع محيطها العربي و كانت تضع التطورات و المخططات التي تستجيب لحاجيات الجالية الاوروبية و كانت تفعل الادارات و المصالح الفنية التي تم إنشاءها بالجهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
*:يذكر الدكتور عبد الحميد الهلال في كتابه :جندوبة 1881-1956 ان أول السكان النازحين بصفة جماعية إلى جندوبة و الاستقرار باحوا زها هم سكان حي الزغادية و الحوايلية الآن.
[1]:عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص 118. [1]: عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص 119. [1] : عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص ……………إذ كانت القطيعة تامة بين مجتمع بدوي له معياره الاجتماعية و عادته و نسقه الذاتي في الحركة ’ يجهل لغة المستعمر و يستعصي عليه فهم رموزها و ما تحمله من ثقافة جديدة كما لم تكن للمستعمر رغبة في إخراجه من هذه الدائرة. قصد إحكام السيطرة عليه و تعطيل وظائفه الرئيسية حتى يسهل تفكيك نسيجه و تحويله إلى وحدات مفككة مستقلة الوحدة منها على الآخرة لا رابط بينها سواء السلطة الجديدة* المسيطرة بلغتها و ثقافتها و قدتها على الفعل كي يتحول إلى مرجعية جديدة’ و سر جاذبيتها إنها تملئ فراغ معرفي و وظائفيا**. لقد كان أهالي جندوبة يلاحظون من بعيد تفاوق المؤسسات الوافدة عليهم في مجال التعليم و الصحة و الإدارة… و لم تكن أهم القدرة على فهم أسباب تعطل الوظائف المؤسساتية عندهم ’ هكذا كان يبدو لمن لا يتوقف لقراءة جملة الأحداث المتفرقة(زمنيا) و التي أدى تراكمها إلى تغير نوعي في وعي الإفراد بذواتهم و بانتمائهم إلى كيان أوسع هو كيان الدولة. و هو مفهوم جديد عند قبائل خمير التي عاشت قرون في عزلة عن دولة البايات و ما سبقها من دول كذلك حال أولاد بوسالم و أولاد جندوبة و الرقبة و لو بدرجة اقل و لو ان فرنسا لم تفتك من أراضي جندوبة الصالحة للزراعة (التي تبلغ حوالي 170 ألف هك) إلا 30 ألف هك و بقي اغلبها أراضيها بايليك و حبس ، إلا ان أهالي جندوبة قد انخرطوا في الحركة الوطنية الرافضة للاستعمار منذ بداية القرن العشرين.
و نود الإشارة، قبل لاستطراد إلى ان السرد التاريخي ليس غابة بذاته ’بقدر ما تحاول رصد نوعية السلوك الفردي و الجماعي لهذه المجموعات البشرية و فهم دوافعه و مدى تأثيره بالإحداث التي عاش سكان هذه المنطقة و بالآثار التي أحداثتها في حياة السكان المحليون
لقد تسألنا سابقا عن مدى تفاعل سكان الجهة سالبا أو ايجابيا مع المؤسسات التي إحداثها الاستعمار و عاينا من خلال الإحداث و الشواهد التي جمعنها من المراجع و الوثائق الوطنية و الأجنبية. عمق التأثير السلبي لهذه المؤسسات على الأوضاع الحضارية و الاقتصادية و الاجتماعية *حيث تم تفكيك البنى القديمة لصالح بنى و مؤسسات فردية في هويتها أهدافها من الجهة و في تونس عموما.
و يبدو ان سكان الجهة الذين انتفضوا في الأشهر الأولى للاستعمار ’ قد استكانوا إلى قوة عسكرية متفوقة تعاملت معهم بذكاء فلم تصادر أراضيهم بشكل فوري و مباشر فغيبت عنهم دوافع ردة الفعل. فلم يروا فيها تمديدا مباشر لمصالحهم كما كانت البعد الوطني غائبا عن أذهان السكان المحلين إلى حد بعيد ليغيب عنهم سبب أخر لرد الفعل ضد الاستعمار’ و نعني بغياب البعد الوطني غياب الشعور بالانتماء إلى دولة مارست ضدهم القمع لمدة ثلاثة قرون و حكمها أفراد غربيين عنهم و سهلوا دخول المستعمر إلى جهتهم ’إلى عزلتهم عن باقي مناطق البلاد و قلة التواصل بيتهم في تلك الفترة ’ و كانت الأمية سببا مهما لجهلهم بطبيعة الأحداث و مالأتها ’ إنما الفرق بين المحلة “المنصورة” و عساكر فرنسا ’ بل ان هؤلاء جلبوا معهم القوافل الصحية و المساعدات الغذائية. و لم يغيروا على محاصيلهم لافتتاك المجبى.
يبدو إذا ’ ان وعي السكان لم يكن جاهزا لاستيعاب المتغيرات العسكرية و السياسية و الاقتصادية الجديدة. و لم يكن قادرا على امتلاك آليات تفكير تتخطى المصلحة الذاتية او مصلحة العثيرة و القبيلة و الحق في وطن حر ’ و يبدو ان مفهوم الوطن و الصراع من اجل التحرر و الو حطة الوطنية… لم يكن لها مدلول واضح في بداية الاستعمار المباشر ’ بل ان نظرة السكان للعنصر الفرنسي كانت نظرة إنجاب شوبها حذر
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Voir :
*:انظر كتاب :jean poncet, paysage et problèmes ruraux , Tunisie
**Pierre Berdin, la vie d’un douar
تام الإعجاب فهو إعجاب الطرف الضعيف بالطرف القوي ’ الذي جلب معه رؤية جديدة للعمران و البنى التحتية و مدارس التعليم و المؤسسات الصحية الادارية و نمط حياة جديد يعتمد على تكنولوجيا حديثة و مظاهر القوة و التحكم في الطيعة…
أما الحذر فمرده سببان ’ حذر طبيعي ’ اي حذر الإنسان من كل ما يحمله ’ و حذر إضافي تعمله السكان فتوارثوه ’ ليتحول إلى سلوك عندهم و هو ناتج عما تعرضت له الجهة بسبب طبعيها الفنية ’ من غارات لم توقفه عبر قرون . و سيتحول هذا الحذر ’ شيئا فشيئا ’ إلى سلوك عدواني مع ظهور الحركة الوطنية في العشرينات و الثلاثينات.
و قد كانت ردة الفعل المنظمة الأولى في تاريخ جندوبة هو خروج مظاهر في 6 أفريل 1922 مساندة للباي الذين أعلن حينها عزمه على الاستقالة و كان حزب الدستور القديم و هو التنظيم السياسي الأكثر نضجا و تنظيما. بقيادة الثعالبي و الذي بدا ينشط داخل تراب الوطن و الاتصال بالجهات و منهم جهة جندوبة ’ لبث وعي جديدة بأهمية الوطن و المواطنة و بضرورة الدفاع عن وحدة هذا الوطن و حريته و قد استجاب أهالي جندوبة لدعوات الحزب و نظموا مظاهرة سنتلوه مظاهرات أخرى متفرقة و اجتماعات سنوية و علانية بالأسواق الأسبوعية كان أهم زعمائها المحليين عبد الرحمان البعلاوي الذي كان برأس الاجتماعات و يكتب بالصحف*عن مشاكل الجهة و قد توصل إلى إصدار برقية احتجاج باسم الأهالي بجريدة l’humanité و هي صحيفة يسارية غير فيها عن ضجر الأهالي بالسياسية الاستعمارية الفرنسية و قد برز بعض الشبان الآخرون مثل لخضر مقريش بمنطقة ربيعة وهو المسؤول عن الهيئة الدستورية المحلية و كذلك حسن بن محفوظ و الظاهر بن محفوظ من منطقة بوسالم. و أصبحت الجهة تعيش بعض الحركة السياسي بفضل وجود بعض البناء المنطقة الذين درسوا بالمدارس العربية-الفرنسية و تفاعل هؤلاء مع الزعامات الوطنية و التنسيق معهم لبث فكر ووعي جديد و قراءه الصحف و نقل فحواها إلى الموطنين. و كانت قضية “عناقيد الغضب” رحلة هامة في بلورة الوعي الأهالي و الارتباط مصالحه المحلية بالحراك على مستوى وطني من خلال اهتمام الحزب و الصحف اليومية بهذه القضية ’ و تكاد نجزم ان هذه المرحلة ’ كانت بمثابة التحول الجذري لدى أهالي جندوبة في علاقتهم بالمركز و بالجهات الأخرى قصد تحولت قبائل خمير و أولاد بوسالم و جندوبة من معادين للباي إلى مساندين له( حفاظا على سيادة الدولة ) و من قبائل منغلقة على ذاتها إلى مواطنين يتفاعلون مع ما يحدث في قبائل جهات البلاد في إطار وطني( بعيدا عن إطار العشيرة و القبيلة) و يهتمون بقضايا أخرى غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
:كانت هناك مجموعة من الصحف التي اسسها تونسيون مثل صحيفة : الامة –مرشد الامة-الاتحاد
[1]:عبد الحميد الهلالي: نفس المرجع ص 139.1:قضية عناقيد الغضب : هي قضية عاملين اقتطفا عنقودي عنب فقبض عليهما المعمر و قام بتعذيبهما لعدة ساعات مما اسفر عن اضرار جسدية و رفع حزب الدستور قضية ضده و لاقت هذه القية انتشارا واسعا في وسائل الاعلام المحلية و الفرنسية و الاجنبية.
قضايا مزارعهم و محاصيلهم الفلاحية. لكن هذا التحول لم يكن عاما بل كان يختصر على بعض العدول و التجار و بعض أهل البلاد… إما بقية الشعب فإنما بمعزل عن المسالة الوطنية ’هكذا وصف الناشط عبد الرحمان اليعلاوي أصيل المنطقة ’ الوضع لأعضاء حزب الدستور.
و ستشهد فترة الثلاثينات والأربعينات تحولات اجتماعية و سياسية هامة تمثلت في سيطرة حزب الدستور الجديد على المشهد السياسي بالبلاد اعتماد على كاريزما الزعيم الحبيب بورقيبة و مجموعة من رفاقه كانوا قد ترددوا على منطقة جندوبة و باقي الجهات عديد المرات و منهم صالح بن يونس و محمود بورقيبة و سليمان بن سليمان و الهادي نويرة و بلقاسم القناوي و يوسف بن عمر الرويس و آخرون .
و قد كان لتردد الزعماء الوطنيون على جهة جندوبة اثرا حاسما في إخراج أهاليها من حالة العزلة السياسية و الاجتماعية التي كانت تعيشها و تحويل اهتمامها من الشأن اليومي الذي يخص الفرد و العشيرة إلى الشأن العام بإدخال مفردات الوطن و المواطنة و الحرية السياسية و الاقتصادية و الوحدة الوطنية و النضال من اجل الاستقلال و قد كانت هذه المفردات غائبة بشكل يكاد يكون كلياني خطاب القبائل و شيوخها و زعمائها و كان ذلك مفهوما في حينه،(مثلما شرحنا سابقا).
لقد اعتمد زعماء حزب الدستور الجديد أسلوبا جديدا في التعامل مع الأهالي يتمثل في الاتصال المباشر بهم في الأسواق الأسبوعية و في منازلهم و مقرات اجتماعاتهم و هو ما أدى إلى خلق نخبة سياسية جهوية مؤمنة بالمطالب الوطنية زامنت عملية الربط و التواصل بين الديوان السياسي للحزب و أهالي جندوبة .
و قد زار الزعيم الحبيب بورقيبة منطقة جندوبة في مناسبتين :
الأولى كانت سنة 1936 و قد زار خلالها منطقة طبرقة ، ثم قام بزيارة ثانية في اوج الحراك السياسي دامت ثلاثة أيام هي 22-23 و 24 سبتمبر 1937 ،زار خلالها بوسالم و جندوبة ثم فرنانة و عين دراهم و طبرقة و قد رافقت زيارته الى جندوبة عدة مظاهرات مساندة و من أهمها مظاهرة نظمت بجندوبة و التحق بها حوالي 2000 شخص ، قامت على إثرها سلطات الاحتلال باعتقال المناضل و القيادي الجهوي عيسى بن الصخري و 16 عضو قياديا آخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
*:كانت هناك مجموعة من الصحف التي اسسها تونسيون مثل صحيفة : الامة –مرشد الامة-الاتحاد
: عبد الحميد الهلالي: نفس المرجع ص 139.
1:قضية عناقيد الغضب : هي قضية عاملين اقتطفا عنقودي عنب فقبض عليهما المعمر و قام بتعذيبهما لعدة ساعات مما اسفر عن اضرار جسدية و رفع حزب الدستور قضية ضده و لاقت هذه القية انتشارا واسعا في وسائل الاعلام المحلية و الفرنسية و الاجنبي
قضايا مزارعهم و محاصيلهم الفلاحية. لكن هذا التحول لم يكن عاما بل كان يختصر على بعض العدول و التجار و بعض أهل البلاد… إما بقية الشعب فإنما بمعزل عن المسالة الوطنية ’هكذا وصف الناشط عبد الرحمان اليعلاوي أصيل المنطقة ’ الوضع لأعضاء حزب الدستور.
و ستشهد فترة الثلاثينات والأربعينات تحولات اجتماعية و سياسية هامة تمثلت في سيطرة حزب الدستور الجديد على المشهد السياسي بالبلاد اعتماد على كاريزما الزعيم الحبيب بورقيبة و مجموعة من رفاقه كانوا قد ترددوا على منطقة جندوبة و باقي الجهات عديد المرات و منهم صالح بن يونس و محمود بورقيبة و سليمان بن سليمان و الهادي نويرة و بلقاسم القناوي و يوسف بن عمر الرويس و آخرون .
و قد كان لتردد الزعماء الوطنيون على جهة جندوبة اثرا حاسما في إخراج أهاليها من حالة العزلة السياسية و الاجتماعية التي كانت تعيشها و تحويل اهتمامها من الشأن اليومي الذي يخص الفرد و العشيرة إلى الشأن العام بإدخال مفردات الوطن و المواطنة و الحرية السياسية و الاقتصادية و الوحدة الوطنية و النضال من اجل الاستقلال و قد كانت هذه المفردات غائبة بشكل يكاد يكون كلياني خطاب القبائل و شيوخها و زعمائها و كان ذلك مفهوما في حينه،(مثلما شرحنا سابقا).
لقد اعتمد زعماء حزب الدستور الجديد أسلوبا جديدا في التعامل مع الأهالي يتمثل في الاتصال المباشر بهم في الأسواق الأسبوعية و في منازلهم و مقرات اجتماعاتهم و هو ما أدى إلى خلق نخبة سياسية جهوية مؤمنة بالمطالب الوطنية زامنت عملية الربط و التواصل بين الديوان السياسي للحزب و أهالي جندوبة .
و قد زار الزعيم الحبيب بورقيبة منطقة جندوبة في مناسبتين :
الأولى كانت سنة 1936 و قد زار خلالها منطقة طبرقة ، ثم قام بزيارة ثانية في اوج الحراك السياسي دامت ثلاثة أيام هي 22-23 و 24 سبتمبر 1937 ،زار خلالها بوسالم و جندوبة ثم فرنانة و عين دراهم و طبرقة و قد رافقت زيارته الى جندوبة عدة مظاهرات مساندة و من أهمها مظاهرة نظمت بجندوبة و التحق بها حوالي 2000 شخص ، قامت على إثرها سلطات الاحتلال باعتقال المناضل و القيادي الجهوي عيسى بن الصخري و 16 عضو قياديا آخرين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
:عبد الحميد الهلالي : نفس المرجع السابق ص 175.
:انظر كتاب: عبد الحميد الهلالي :تونس 1881 1956 و رضا العش : محطات نيرة في تاريخ جندوبة.
. عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 1
و قد خطب الحبيب بورقيبة و سط الجماهير و تحدث عن الوحدة الوطنية و ضرورة الالتفاف حول هدف مشترك و النضال من اجل تحرير تونس كما أولى اهتماما خاصا بقضايا الجهة الزراعية و قضايا المديونية و الفقر و بضرورة و بضرورة التصدي للمستعمر و الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة.
كما زار صالح بن يوسف جهة جندوبة سنة 1937 صحبة الهادي نويرة و تلت هذه الزيارة حملة لشن اضراب مساندة لزعما الحركة الوطنية بالجزائر و المغرب بدعوة من قادة الحزب و كان الاضراب بجندوبة من انجح الاضرابات نظرا لعلاقة الجهة بالقطر الجزائري و لتواجد عدة مناضلين جزائريين بالمنطقة .كما عاود صالح بن يوسف زيارة جندوبة في سنتي 1947-1950
و كذلك زار محمود بورقيبة و بلقاسم القناوي و خميس بلحسن و يوسف بن عمر الرويس و سليمان بن سليمان في مناسبات متعددة و عقدوا اجتماعات شعبية متعددة صحبة رموز الجهة و منهم عيسى بالصخير من جندوبة و يوسف بوريال رئيس شعبة فرنانة و ساسي بن علي بن عياد و العيفة بن خميس و علي بالحاج شلبي و بلقاسم بن عبد الله….
لقد نتج عن هذا التفاعل المتواصل بين القيادات الوطنية الجهوية و الالتقاء المتواصل بالفلاحين و التجار أصيلي المنطقة إلى التفاف نسبة هامة من الشباب حول حزب الدستور حيث بلغ عدد منخرطي الشعبة الدستورية بسوق الأربعاء إلى 4500 عنصر و 3000 بطبرقة و 400 عضو ببوسالم و 40 بغار الماء في الثلاثينات ،
و كثرت المظاهرات التي يقودها رموز الجهة بكل من بوسالم و جندوبة و طبرقة و عين دراهم و غار الدماء كما تعددت مظاهر الاحتجاج
و نلاحظ تطور خطاب أبناء أولاد بوسالم و جندوبة و الرقبة و خمير و استيعابه للمفاهيم التي أصبحت تحكم العلاقة بين الجهة و باقي جهات البلاد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص22
.عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق 23
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق 296
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 12-13
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 16
*:يقول المعمر(Hunon)
انه “لم يعد يعيش بالأمان و ان طباع الاهالي تغيرت ….و يكرهوننا و هذا تحت تاثيرالدستور” من كتاب ع.الحميد هلال. نفس المرجع ص 14يقول عبد الله بن سعد خطابا في تجمع بغار الدماء حضر 2000 شخص “إننا نطالب بحقوقنا…لنا رجال يدافعوا عنا….يدافعوا عن دينكم…” و يقول علي بالحاج شلبي القناوي في خطاب آخر بطريقة في 13نوفمبر 1936 “كل المسلمين يجب ان يتحدوا ، سواء في طبرقة، باجة ، تونس او قفصة و ان يكونوا متضامنين ، ان هذا التحول في الخطاب هو دلالة لفظية عن تطور الوعي لدى أهالي الجهة بحضور مفهوم الوطن و المواطنة وانتشار الانتماء الحزبي الذي مثل الخيط الرابط بين أبناء الجهة و “وطنهم الجديد”* بأبعاده الجغرافية و السياسية و قد مثلت هذه المرحلة مرحلة تصالح بين قبائل الجهة و السلطة المركزية التي التحمت بهم و شاركتهم مشاغلهم و إشراقاتهم في قضايا البلاد و كانت أحداث 4 أفري 1938 بوادي مليز تتويجا لهذا المسار ، حيث نفذ أبناء وادي مليز و أعضاء من الشعبة الدستورية بجندوبة و بتعليمات من الديوان السياسي، اجتماعا شعبيا حضره 2000 شخص عقبته عملية اعتقال لأعضاء الشعبة الدستورية بجندوبة و نتجت عنه أحداث عنف متبادل بين المواطنين و قوات المراقبة المدنية لأيام متتالية إلى غاية أحداث 09 أفريل 1938 بتونس العاصمة.
ثم تلتها أحداث المرجى في 10 نوفمبر 1949 حيث نظم عمال المرجى إضرابا دام 110 أيام كانت له تداعيات جهوية وطنية هامة.
حيث تضامن عمال الكاف الزراعيين بضيعة Dreux و عمال منجم القلعة الجرداء و عمال النفيظة يوم 20 نوفمبر 1949 ’ و قد زار الزعيم فرحات حشاد عمال المرجي يوم 16 نوفمبر 1949 خطب فيهم ’ و نذكر ان فرحات حشاد كان قد زار عين دراهم في شهر مارس 1947 و طبرقة و بني مطير و جندوبة في شهر أكتوبر 1948 ثم عاد وزار بوسالم و بني مطير يومي 20-21 سبتمبر 1949 و في 23-24 سبتمبر 1949 منطقة جندوبة و واد المعدن و جبل حلوف ثم عاد في شهر نوفمبر 1950 و مارس من نفس السنة.
و كان يلتقي بعمال المناجم و السدود و عمال المزارع . و كان يحدثهم عن الحق النقابي و ضرورة النضال من اجل فرضه و كانت خطاباته تجمع بين البعد النقابي و البعد السياسي و قد تكونت عديد الخلايا النقابية الناشطة ضد الاتحاد العام التونسية للشغل كنتيجة مباشرة لنشاط الزعيم فرحات حشاد و عديد الزعامات النقابية الشابة بالجهة و من بينهم الحسين بن الطاهر علالي و حبيب القرضي و الهادي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
:عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 32.
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 12-13
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 59
:انظر كتاب عبد الحميد الهلالي تونس 1881-1956 و كتاب رضا العش، محطات نيرة من تاريخ جندوبة.
الجبالي عن جهة عين دراهم-طبرقة و صالح القلعاوي و حمدي يوسف و محمد بعواجة عن سهول جندوبة حيث وصل عدد الإضرابات النقابية بين 46- 1949، 25 إضرابا.
و ما يهمنا هذا البحث ، ليس كم الأحداث النقابية و لا عدد المنخرطين، على أهميتهما ، و إنما مدى انفتاح سكان الجهة على بعد جديد كان غائبا في الخطاب و الفعل الاجتماعي الريفي المزارع و هو الفعل النقابي المنظم ، حيث نلاحظ و ييسر القبول الجمعي لمفهوم الفعل النقابي و العمل المنظم للمطالبة بالحقوق العمالية حيث تحولت هذه الفئات العمالية نفسها من العمل ضمن نظام “الخماسة” أو العمل بالعشر ،يؤدونه بمشاركة كل أفراد عائلاتهم و لم تكن لهم حقوق محددة ينجزونها و إنما يتكفلون بكل الأشغال التي يحددها صاحب الضيعة و كانوا يعالجون مشاكلهم مع ملاكي الأراضي بشكل فردي.
تحولت هذه الفئات إذا و بشرعة إلى فئات منظمة في قطاعات المناجم و الضيعات الزراعية و السدود.
و نتصور ان هذا التحول يعود أساسا إلى عامل الثقة الذي كان سائدا بين الزعامات النقابية الوطنية و خاصة الزعيم فرحات حشاد و قدرته على الإقناع و الجذب و افتكاك اهتمام و إعجاب القطاعات العمالية الواسعة في ضل غياب البعد المعرفي لدى هذه القطاعات حتى ان فعلها النقابي نابع من وعي جماعي بحقيقة أوضاعهم و طبيعة المطالب النقابية .
ان قوة الكاريزما التي كان يتمتع بها كل من فرحات حشاد و الحبيب بورقيبة و صالح بن يوسف و غيرهم ممن يحتلون الصف الثاني من القيادات ،لتبدو متغيرا أساسيا في تفسير حالة التحول السياسي و الثقافي و النقابي لدى قطاعات واسعة من الفلاحين و التجار و الموظفين بالجهة ، غير ان التلاحم ما كان ليحصل بدون قبول إرادي من عموم الأفراد إذ ان نجاح السلطة يعتمد على مبدأ القبول بها .
و مما يؤكد حالة القبول و الرغبة في الفعل الاجتماعي إضافة إلى التحركات السياسية و النقابية هو إقبال خريجي جامع الزيتونة * و المدارس العربية-الفرنسية مثل بلحسن الدريسي و عبد الحكيم العيادي و الصادق السعيدي و غيرهم على تكوين الجمعيات الجمعية الخيرية الإسلامية التي فتحت اكتتابا لبناء مدرسة قرآنية و هي مدرسة النور** و جمعية الشبان المسلمين التي أمنت إلقاء المحاضرات في الدين و التاريخ ….
و جمعية التعاون الثقافي التي أنشأت مكتبة بمدينة جندوبة و هو بعد آخر، جديد ، اي بعد العمل الجمعيات الذي يرتكز على مفهوم الوعي ببعد المواطنة و المساهمة طواعية و بشكل منظم في التصدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر:
:عبد الحميد الهلالي : المرجع السابق ،ص 342
:ماكس فيبير(Max Weber)
*: كان عدد الطلاب أصيلي جندوبة بجامع الزيتونة 51 طالبا ، مأخوذا عن ع.الهلالي من نفس المرجع ص 309
**: مدرسة النور : هذه مدرسة قائمة إلى غاية الآن وسط مدينة جندوبة.
لقضايا محددة تهم المجموعة البشرية التي يستهدفها هذا العمل و هو تحول نوعي كان نتيجة طبيعية لبدء انتشار التعليم لدى فئة من أبناء الجهة و تبلور و عي سياسي جديد قطع مع الانتماء القبلي و زرع مفهوم المواطنة و قيم التحاور السياسي و الاقتصادي ، و كذلك بدء تجذر الفكر النقابي الوطني الذي رفع شعار الحق النقابي في وطن حرّ، و ما كان لهذا التحول ان يحصل بيسر لولا قوة الكاريزما التي كانت تحمل مضامين وطنية و أخلاقية و جدت صدى عميقا لدى فئات واسعة من السكان تميل بطبيعتها البدوية غالى الخطاب الصادق و قد كان ظهور الاتحاد العام للفلاحة التونسية سنة 1950 و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة سنة 1948 و انخراط فلاحي و تجار و صناعي الجهة بها تبين المنظمتين تتويجا طبيعيا للفعل و المراكمة التي برزت منذ العشرينات من القرن العشرين.
لقد رأينا من خلال متابعتنا لتاريخ جندوبة، ان سكانها الأصليون كانوا يسكنون جبال خمير و الهضاب المتاخمة لسهول مجردة العليا،و أنهم اكتسحوا هذه السهول شيئا فشيئا بمعية القبائل العربية التي قدمت منذ منتصف القرن الثاني عشر.
وان مؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية والدينية قد تغيرت عبر قرون و غيرت وظائفها تأثرا بكل المتغيرات التاريخية التي طبعت تاريخ الجهة،إلى ان التقت بالحضارة العربية التي يبدو أنها احتاجت إلى أكثر من سبعة قرون لدمج كل المجموعات بالجهة ضمن إطارها وثقافتها، رغم سرعة اعتناق السكان للدين الإسلامي.
و قد كانت فترة البايات، مرحلة جدية حملت معها متغيرات جديدة ستؤثر على مستوى عيش السكان و استقرارهم: كانت الجباية مفهوما لم يستوعبه السكان المحليون و لم يسلموا
بشرعيته خاصة في المناطق الجبلية كما كان لظهور الجيوش النظامية , المتمركزة داخل مدنها و التي تختلف في معمارها و شكلها ووظائفها و رمزيتها عن الفضاء البدوي للسكان المحليين ,تاثيراسلبياعلى علاقة السكان بالسلطة المركزيةحيث بدأ يتأسس صراع من نوع جديد و هو صراع الحضارة المتفوقة حضاريا و معماريا و عسكريا مع البادية .
يتحول الصراع من صراع بين قبائل الجهة حول الأرض و الثروة ,مع الحفاظ على ثقافة مشتركة لا سيد فيها و لا مسود ,إلى صراع مع القوى الغازية دفاعن الوجود و المصالح مع حضارة منتصرة ثقافيا و سياسيا و عسكريا.
الحضور الفرنسي:
في نفس تلك الفترة كانت فرنسا تعيش ثورة اجتماعية رافقتها ثورة صناعية احتاجت بموجبها إلى مصادر جديدة للطاقة و الثروات و أسواق جديدة لسلعها و أعلنت احتلالها لتونس في شهر ماي 1881 و تحول الحكم إلى حكم مزدوج بين البايات و السلط الفرنسية .
و كانت لفرنسا أهداف اقتصادية محددة في الجهة تتمثل في استخراج : الزنك و الرصاص و النحاس و الزئبق و استغلال الثروات الغابية و ثروات السهول لذلك تسارعت بمد خط السكة الحديدية بين غار الدماء و تونس العاصمة و كذلك طبرقة و بنزرت و تم في مرحلة ثانية ربط جندوبة بالعاصمة عبر طريق معبدة و ربط جندوبة بعين دراهم و طبرقة و شرعت في أشغال مناجم :جبل الديس و جبل حلوف و سيدي بوعوان و الشويشية ، و سارعت إلى تأسيسمراقبة مدنية بجندوبة .
و بناء ثكنات عسكرية و استولت على حوالي 30 ألف هك من الأراضي الخصبة و أدخلت أساليب حديثة على العمل الفلاحي يعتمد على المكننة.
و أسست مراكز حضرية جديدة لفائدة الجالية الوافدة على الجهة و هي غار الدماء و جندوبة و بوسالم .و أدخلت خدمة البريد و الصحة و التعليم (لأبناء المعمرين) و إدارة الفلاحة و التجهيز و إدارة الغابات كما بنت الحدائق العمومية و ملاعب التنس و الكرة الحديدية…و ظهرت المقاهي و الحانات و تواترت مظاهر الاحتفال الفني في المناسبات الرسمية الفرنسية.
حدث كل هذا التغيير ضمن بيئة قبلية تتسم بالبداوة و تحتاج إلى الوقت و الظروف الملائمة لاستيعاب المفاهيم و التقنيات الجديدة التي غيرت علاقة الإنسان بالأرض و بالمسافات و الزمن كما غيرت فهمه للتعلم و الصحة و إدارة شؤون السكان و الطبيعة المحيطة به.
لقد كانت طبيعة العلاقة بين سكان جندوبة و المستعمر الفرنسي علاقة صراع كتب عنها المؤرخون ووصفوا أحداثها .غير ان ما يهمنا في هذا البحث هو السعي لفهم طبيعة و اتجاه التغيرات الاجتماعية و الثقافية و مدى تأثير الحضور الفرنسي على المؤسسات الاجتماعية التقليدية و على مسار التطور الطبيعي لهذه المجموعة السكانية.
دخلت ،اذا الجيوش الفرنسية التراب التونسي يوم 14 ماي 1881 من جهة غار الدماء و الكاف و بنزرت بعد ان قامت بمحاصرة طبرقة من البحر و مهاجمة جهة منطقة خمير بالمدفعية البحرية و الهجمات البرية من جهة الجزائر لمدة شهرين ،تقريبا بجيش يتراوح عدده بين 25 و 35 ألف جندي
عبد الحميد الهلالي :جندوبة 1881-1956 ،ص 58-59
عبد الحميد الهلالي :المرجع السابق ص 58
و فرضت نظام حماية على تونس ،ـ يعتمد على سلطة إدارية و سياسة مزدوجة ، يمثلها المقيم العام الفرنسي من جهة و باي تونس من جهة ثانية .و سرعان ما ستتحول السيطرة العسكرية و الادارية و السياسية إلى المقيم العام الفرنسي و إدارته التي سيتم تركيزها بكل الوزارات و الإدارات المركزية و الجهوية و ستباشر السلط الفرنسية تنفيذ مخطط دقيق لاستغلال الثروات الوطنية طبقا لاتفاقيات مبرمة سلفا مع باي تونس .
فقد بادرت فرنسا بمد سكة حديدية تربط القطر الجزائري بالعاصمة تونس مرورا بغار الدماء و جندوبة و باجة منذ 1877 ،علما منهم بأهمية الدور الذي ستلعبه السكك الحديدية في تغيير المعطى السياسي (هيمنة عسكرية)و الاقتصادي* و تم فتح محطة النقل بغار الدماء “لاقار” يوم 30-03-1880 ، ثم تم فتح محطة جندوبة و بوسالم و تركيز وحدات عسكرية لتامين الخط الحديدي من التخريب و نقل المواد الفلاحية و المستخرجات المنجمية الى موانئ حلق الواد و بن عروس ،كما شرعت في فتح طريق سنة 1882 ،تربط جندوبة بعين دراهم ثم طبرقة لاحقا لتتمكن من النفاذ الى جبال خمير و إحكام السيطرة عليها و إفساح المجال أمام الفرنسيين لاستغلال مادة الخفاف و الخشب و المواد المنجمية ، ثم فتحت طريقا رئيسا يربط جندوبة بتونس العاصمة على طول 150 كلم :حيث كانت الطريق عبارة عن مسلك ترابي لا يصلح للنقل:
« Le réseau de transport …………. Etait formé par un ensemble de pistes et d’itinéraires ….m’achevés et incomplets »
عمر بالهادي : السكك الحديدية و الفضاء في تونس ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بتونس ، المطبعة الرسمية ، ص31،1980.
عمر بالهادي : السكك الحديدية و الفضاء في تونس ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بتونس ، المطبعة الرسمية ص 32.
*يقول الدكتور عمر بالهادي « les infrastructure permettent de contrôler l’espace dans la mesure ou il n’est: maitrisable que l’ors qu’il est rendu accessible, or une fois accessible, l’espace est obligatoirement politisé »
[i]:عبد الحميد هلالي : المصدر السابق، ص95. [i]:عمر بالهادي : المصدر السابق ص 21.و سعيا لتوفير الخدمات الضرورية “للمعمرين” الذين بلغ عددهم 240 معمرا (و يستغلون 30.235 هك) ، إضافة إلى الإداريين و العسكريين و التجار الفرنسيين و الايطاليين و عائلاتهم فقد أحدثت السلطات الفرنسية مركزا حضاريا أول ،و هو مدينة جندوبة ببلديتها سنة 1887 و نقلت السوق الأسبوعية من منطقة ربيعة المحاذية لبلاريجيا إلى جوار القرية الجديدة و انشات مركزا بريديا و مستشفى محليا و مدرسة للذكور و سرعان ما تم انجاز أول نزل و مقهى و حديقة عمومية و بناء ملاعب للتنس و الكرة الحديدية ، لفائدة 4700 أوروبي ، منهم حوالي 1800 فرنسي .
و في سنة 1892 تم تركيز بلدية عين دراهم ثم طبرقة سنة 1896 و أخيرا بوسالم و غار الدماء سنة 1905 و تم إنشاء مصالح خدمية بها كذلك .
كما سارعت السلطات الفرنسية ،منذ شهر ديسمبر 1886 إلى تركيز مراقبة مدنية بالجهة و ألحقت بها قيادات : سوق الأربعاء و عين دراهم و غار الدماء و بوسالم ليتحول القياد إلى مصالح ثانوية تحت إمرة المراقب المدني.
و تم تعزيز دور المراقب المدني ببعث مصالح فنية جهوية مثل إدارة التجهيز و إدارة الفلاحة و إدارة الغابات .يقول أحمد القصاب عن مدينة جندوبة
Des 1887, elle fait figure de capitale administratif
et régionale elle abrite les services administratifs, mais aussi techniques…..les constructions n étaient jusqu’à la veille du premier genre mondiale que de modestes banques en bois qui abritaient une population en majorité étrangère ….le secteur artisanal comprenait…les métiers : charpentier, briquetier, charron, cordonnier, menuisier, ébéniste, peintre, selliers –bourreliers, tailleur, horloges maçon, fabricants de glace . “
لقد أدخلت فرنسا مفاهيم جديدة، للفضاء العمراني و لوظائفه و لعملية الإنتاج التي تحولت من الاعتماد على الفرد إلى تكنيك المكينة و التعلم و الصحة و الإدارة و علاقة الإنسان بالزمن و المسافات
[i]: عبد الحميد هلالي ،نفس المصدر السابق ص 107 [i]:عبد الحميد الهلالي ، نفس المصدر السابق ص 615-616. [i] : عبد الحميد هلالي نفس المصدر ص 84 .أحمد قصاب، نفس المصدر السابق،ص 615-616
فهل تحولت بذلك جهة جندوبة بقبائلها و عشائرها البدوية إلى عصر الثورة الصناعية و التحضر العمراني و التنظيم الإداري……؟
لقد كانت جهة جندوبة “البدوية”(كما كان يسميها الحضر و كذلك المؤرخون و الدارسون ، على قلتهم ، ) ، جهة مستقرة نسبيا في أواخر القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر ، تتميز عن بقية الجهات بوفرة إنتاجها ، يقول أحمد القصاب:
Les région de la moyenne Medjerda apparaissent aussi à la veille du protectorat nettement plus prospères que la bled Beja …les officiers des affaires indigènes out tous signalé la grande extension des cultures… sur les terre de Jendouba …et l’importance de leurs souks hebdomadaires »
سنتوقف الآن ، سريعا عند الجانب السوسيولوجي لهذه الجهة و الذي حاولنا تعقب خصائه بدءا بالعهد االنوميدي ، و سنحاول التعرف على الأبعاد الثقافية و الاجتماعية لسكان جندوبة في أواخر عصر البايات بالاعتماد على قراءة و تحليل مفهوم البداوة الذي صار الصفة الأكثر استعمالا عند الحديث عن سكان الجهات الداخلية و جهة جندوبة لكي تستطيع فهم العلاقة التي ستنشأ بينهم و بين المستعمر الجديد
البدو هم العرب أو الأعراب الذين يسكنون مناطق بعيدة و منعزلة عن مناطق العمران و هم عندنا ،سكان الريف ،و البدو كما عرفهم ابن خلدون سابقا و كما وصفهم عبد الحميد الهلالي و رضا العشي و جان يونسي بيار باردان و غيرهم ممن اهتموا بهذه المنطقة أو المناطق النائية الأخرى و التي تشترك مع جندوبة في بعدها عن المراكز الحضرية الكبرى ،هم مجموعات بشرية ،تعتمد نمط حياة بسيط في المسكن واللباس (غياب مظاهر البذخ ) و في نظامها الغذائي (غياب التنوع و الكثرة )و نسق الحياة عندهم يتناغم مع محيطهم الطبيعي .
و يسير على وقعها ، و يغيب عندهم التنظيم العمراني و الاستقرار الدائم و لا يهتمون بالتعليم لذلك تنتشر بينهم الأمية و الجهل بشروط الصحة و التنظيم الإداري … و باختصار هي مجموعات بشرية تتسم بالشيخوخة و الأمية و الالتصاق بالطبيعة و العيش على نسق عناصرها.
[i]: احمد القصاب : نفس المصدر السابق، ص 87هذا مثال نموذجي لصنف من السكان يتواجدون بالمنطقة العربية فيوصفون بالبدو ،سنعتمده ،دون حكم على الأوصاف و التصنيفات التي يتضمنها بالسلب أو الإيجاب ،و نود أن نضيف انه من خلال بحثنا في تاريخ جندوبة قد لمسنا قدرة سكانها على العمل و الإنتاج و توفير الفائض، و هي خاصية قد لا تتوفر في كل المجموعات البشرية التي تستجيب ، في خصائصها السوسيولوجية ، للمثال النموذجي الذي قدمناه ، غير ان هذا لا ينفي القاعدة ،و إنما نتصور ان ثراء الطبيعة و حالة الاستقرار النسبي ، التي ميزت الجهة ، قد مكنت الإنسان فيها و عوّدته على العمل و الإنتاج و خلق الثروة.
لذلك نتساءل، ماذا لو تواصل نسق تطور سكان هذه المناطق، دون تدخل أو تأثير من عناصر خارجة عن نسقه الذاتي ؟ و هو سؤال مؤجل إلى ان ترى نتائج البحث.
إلا أننا نتساءل الآن عن مال العلاقة بين سكان جندوبة و المتغير الخارجي الجديد اي الاستعمار الفرنسي من خلال ما يطرحه من مفاهيم جديدة للمؤسسات الاجتماعية ،و العمل و التنظيم العمراني و نمط الحياة؟
ان ما تم انجازه من دوائر بلدية و مصالح فنية و مستشفيات محلية و مدارس تعليم (و هو إنتاج لنسق ثقافي ومعرفي غريب عن النسق المحلي) قد كان في قطيعة عضوية مع السكان المحليين ،أولا ، من حيث لغة التخاطب (الفرنسية) الرسمية و التي يحملها سكان الجهة و ثانيا , لان كل ما تم انجازه في المستوى الإداري و الفني , كان يستجيب لحاجة “المعمرين” و عائلاتهم دون غيرهم , إذ كان أعضاء المجالس البلدية فرنسيون (شرط أساسي ) , يتداولون و يضعون التصورات و الخطط للفضاءات العمرانية التي أحدثوها دون تشريك للعناصر المحلية أو مراعاة عاداتهم و نمط عيشهم ، كما كانت إدارة الفلاحة و إدارة الغابات تقوم بدور وظيفي هام لفائدة “المعمرين ” الذين يشتغلون بالسهول أو بمقاولات الأشغال العامة أو مربي الخنازير و مستغلو الغابات بالمناطق الغابية ، حيث تم إصدار قانون الغابات في شهر نوفمبر 1915 ، لمنع السكان من الاستقرار و الرعي و قطع الأخشاب ، و هو ما سيجبرعددا منهم على ترك الغابة و التوجه نحو السهول للعمل “بالخماسة” .
كما ساهمت إدارة الفلاحة في إحصاء الأراضي الخصبة مثل أراضي البايليك بجهة بوسالم و غار الدماء و بعض سهول جندوبة حيث تم شراء ضيعات المرجى من ورثة خير الدين باشا و التفويت فيها “للمعمرين.”
[i]:ماكس فيبير. [i]:عبد الحميد…..:نفس المصدر السابق، ص 93 [i]: عبد الحميد…..:نفس المصدر السابق،ص 101 [i][i]: عبد الحميد…..:نفس المصدر السابق،ص1كما ساهمت هذه الإدارة بمعية المصالح العقارية في استصدار القانون العقاري و السجل العقاري المختلط بتضييق الخناق على الفلاحة الصغار حيث تحولت الأراضي التي يشتريها الفرنسيون إلى أراضي ذات جنسية فرنسية و في حال نشوب نزاع مع فلاحي الجهة فان المحاكم الفرنسية هي المخولة بالنظر في هذه القضايا و هو ما فتح الباب أمام المعمرين ان يستعملوا شتى الأساليب للتضييق على الضيعات المجاورة لها قصد افتكاكها أو طرد السكان المجاورين لهم .
كما سمح لهم أمر 23 ديسمبر 1894 بإكتراء أراضي الحبس* و سميت بعمليات الإنزال .
كما كانت عملية المكينة الفلاحية في تونس و الجهة جد سلبية على الوضعية المالية للمالكين المحليين الصغار الذين وجدوا أنفسهم أمام منافسة شرسة ، كما كانت الغاية منها تفقيرهم ثم إرغامهم عبر القروض المجحفة على بيع أراضيهم و قد تواصل هذا العمل المنظم للإدارة الفرنسية منذ 1881 الى غاية 1956 دون توقف .
يقول جان وينسيه واصفا الوضع الاقتصادي و العقاري في هذه الجهات
« toutes les régions agricoles fortement transformé par les européens opposent ainsi ,à une structure économique très concentrée ,repoussant sur une ou deux activités dominantes, commandées largement par le marché extérieur , une structure traditionnelle émietté, rainée et proprement « marginale » en ce sens qu’elle ne répond plus , ni aux lois de l’évolution moderne ,ni même aux besoin viviers qui en explique cependant le maintien ,cette opposition se trouve sur tous les plans : répartition géographique et foncière, peuplement, habitat ressources, niveaux de vie… »
و سيخلق هذا الوضع فئات واسعة من المهمشين و هي ظاهرة جديدة على المجتمع المحلي ،حيث كان لكل فرد دورا يؤديه في الغابة أو العمل الفلاحي بالسهول ، سواء كان مالك للأرض أو عاملا بها.
ثم تكونت فئات واسعة من المهمشين الذين فقدوا أراضيهم او طردوا من مساكنهم لأنها كانت مجاورة لضيعات المعمرين أو تم التضييق عليهم بالمناطق الغابية ، و قد لجأت هذه الفئات إلى النزوح و الاستقرار على هامش المدن و القرى الجديدة مثل جندوبة و بوسالم و غار الدماء ووادي مليز و فيهم من اتجه نحو تونس العاصمة .و كان الهدف المشترك لكل هؤلاء هو البحث عن موطن شغل*.
[i]: عبد الحميد…..:نفس المصدر السابق،ص102 [i] :يقول عبد الحميد الهلالي ان” ممثلي السلطة يعمدون إلى الحجز و بيع الأملاك و السجن” عندما يعجز الفلاحون الصغار عن تسديد ديونهم .انظر ص 132 كما يذكر عن كتاب تونس الشهيدة ان شركات “الحيطة الاجتماعية تشتري من المعمرين بأثمان مريحة ، القمح الرديء و تمنحه في شكل سلفات بذر للمزارعين المحليين “ص 132 [i] : Jean (P) même référence, P42و لم يكن حظ السكان المحليين أحسن حال من حيث الانتفاع بالخدمات الصحية و التعليمية ، و بالرغم من إنشاء مدارس فرنسية منذ 1887 في جندوبة (مدرسة الطيب المهيري لاحقا) و بوسالم سنة 1895 و طبرقة سنة 1888 و عين دراهم سنة 1904 ثم غار الدماء ثم تم في بداية القرن العشرين إنشاء مدارس فرنسية عربية بعين دراهم سنة 1910 و جندوبة سنة 1912 و أخيرا سمحت السلطات الفرنسية بإنشاء أول مدرسة قرآنية بجندوبة سنة 1939 و لم يكن عدد التلاميذ الذين تمتعوا بالتعليم في المدارس الفرنسية على امتداد نصف قرن يتجاوز تلميذين أو ثلاثة من أبناء الميسورين في السنة كما انه ليست لنا إثباتات ان كان هؤلاء التلاميذ قد تابعوا دروسهم أولا.
كانت فرنسا تعلم ان المعرفة سلاح يمكنه ان يتحول ضدها ،إذا ما امتلكه السكان المحليون فجعلت من اللغة الفرنسية ، لغة المعرفة و التخاطب ،يتداولها يقتصر عليهم لمدة فاقت نصف القرن منذ 1881.
و رغم ان عملية الإقصاء لأبناء الأهالي لم تكن معلنة إلا أنها كانت ممنهجة فالجهل و الفقر و تكاليف الدراسة
تجعل من مجرد التفكير بالالتحاق بمدارس المستعمر أمرا مستحيلا .
و قد تمكنت إدارة المستعمر من فرض حالة من التجهيل المتعمد و حولت وجهة السكان نحو الزوايا بعد ان فرغتها من محتواها “النضالي” الذي أبدته عديد الزوايا في مواجهة المستعمر من خلال التضييق العسكري عليها و مصادرة أراضيها و محاصرتها جغرافيا و اجتماعيا و تطويعها إلى دور ووظيفة جديدين تخدم أهداف المستعمر من خلال حصر دورها في احتضان الأهالي و دعوتهم إلى الإيمان “بالقضاء و القدر” و الرضاء بما” كتب الله ” و السعي المستمر إلى إحياء جذوة هذه المشاعر من خلال الاحتفالات “الزرد” و إحياء الطقوس و كانت ادارة المستعمر تسهر على حماية و تشجيع هذه الظواهر” و قد طلبت سلطات الاحتلال في جهة خمير من الآباء البيض و من بعض ضباط الجيش الفرنسي حضور “الزردات” و تقديم الهيبات الى المقدمينالمكلفين بالإشراف على أضرحة الأولياء “
في تلك الأثناء كانت المدارس الفرنسية المحصنة داخل أسوراها تقدم المعرفة لأبناء الجالية الأوروبية ( فرنسين- إيطاليين- إسبانيين…) و كانت المستشفيات حكرا عليهم كما كانت المجالس البلدية في قطيعة تامةمع محيطها العربي و كانت تضع التصورات و المخططات التي تستجيب لحاجيات الجالية الاوروبية و كذلك كانت تفعل الادارات و المصالح الفنية التي تم إنشاؤها بالجهة.
*:يذكر الدكتور عبد الحميد الهلال في كتابه :جندوبة 1881-1956 ان أول السكان النازحين بصفة جماعية إلى جندوبة و الاستقرار باحوا زها هم سكان حي الزغادية و الحوايلية الآن.
[i]:عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص 118. [i]: عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص 119. [i] : عبد الحميد الهلالي :نفس المصدر السابق .ص ……………إذا كانت القطيعة تامة بين مجتمع بدوي له معاييره الاجتماعية و عاداته و نسقه الذاتي في الحركة ’ يجهل لغة المستعمر و يستعصي عليه فهم رموزها و ما تحمله من ثقافة جديدة كما لم تكن للمستعمر رغبة في إخراجه من هذه الدائرة. قصد إحكام السيطرة عليه و تعطيل وظائفه الرئيسية حتى يسهل تفكيك نسيجه و تحويله إلى وحدات مفككة مستقلة الوحدة منها عن الآخرى لا رابط بينها سوى السلطة الجديدة* المسيطرة بلغتها و ثقافتها و قدرتها على الفعل كي يتحول إلى مرجعية جديدة’ و سر جاذبيتها انها تملا فراغا معرفيا و وظائفيا**. لقد كان أهالي جندوبة يلاحظون من بعيد تفوق المؤسسات الوافدة عليهم في مجال التعليم و الصحة و الإدارة… و لم تكن لهم القدرة على فهم أسباب تعطل الوظائف المؤسساتية عندهم ’ هكذا كان يبدو لمن لا يتوقف لقراءة جملة الأحداث المتفرقة(زمنيا) و التي أدى تراكمها إلى تغير نوعي في وعي الافراد بذواتهم و بانتمائهم إلى كيان أوسع هو كيان الدولة. و هو مفهوم جديد عند قبائل خمير التي عاشت قرون في عزلة عن دولة البايات و ما سبقها من دول كذلك حال أولاد بوسالم و أولاد جندوبة و الرقبة و لو بدرجة اقل و لو ان فرنسا لم تفتك من أراضي جندوبة الصالحة للزراعة (التي تبلغ حوالي 170 ألف هك) إلا 30 ألف هك و بقي اغلبها بايليك و حبس ، إلا ان أهالي جندوبة قد انخرطوا في الحركة الوطنية الرافضة للاستعمار منذ بداية القرن العشرين.
و نود الإشارة، قبل الاستطراد إلى ان السرد التاريخي ليس غاية بذاته ’بقدر ما نحاول رصد نوعية السلوك الفردي و الجماعي لهذه المجموعات البشرية و فهم دوافعه و مدى تأثيره فى الاحداث التي عاشها سكان هذه المنطقة و بالآثار التي أحدثتها في حياة السكان المحليين
لقد تساءلنا سابقا عن مدى تفاعل سكان الجهة سلبيا أو ايجابيا مع المؤسسات التي احدثها الاستعمار و عاينا من خلال الإحداث و الشواهد التي جمعناها من المراجع و الوثائق الوطنية و الأجنبية. عمق التأثير السلبي لهذه المؤسسات على الأوضاع الحضارية و الاقتصادية و الاجتماعية *حيث تم تفكيك البنى القديمة لصالح بنى و مؤسسات جديدة في هويتهاو أهدافها فى الجهة و في تونس عموما.
و يبدو ان سكان الجهة الذين انتفضوا في الأشهر الأولى للاستعمار ’ قد استكانوا إلى قوة عسكرية متفوقة تعاملت معهم بذكاء فلم تصادر أراضيهم بشكل فوري و مباشر وغيبت عنهم دوافع ردة الفعل. فلم يروا فيها تهديدا مباشر لمصالحهم كما كان البعد الوطني غائبا عن أذهان السكان المحلين إلى حد بعيد ليغيب عنهم سبب أخر لرد الفعل ضد الاستعمار’ و نعني بغياب البعد الوطني غياب الشعور بالانتماء إلى دولة مارست ضدهم القمع لمدة ثلاثة قرون و حكمها أفراد غربيين عنهم
سهلوا دخول المستعمر إلى جهتهم و عزلتهم عن باقي مناطق البلاد اضافة الى قلة التواصل بيتهم في تلك الفترة ’ و كانت الأمية سببا مهما لجهلهم بطبيعة الأحداث و مالأتها ’ إدا ما الفرق بين المحلة “المنصورة” و عساكر فرنسا ’ بل ان هؤلاء جلبوا معهم القوافل الصحية و المساعدات الغذائية. و لم يغيروا على محاصيلهم لافتتاك المجبى.
يبدو إذا ’ ان وعي السكان لم يكن جاهزا لاستيعاب المتغيرات العسكرية و السياسية و الاقتصادية الجديدة. و لم يكن قادرا على امتلاك آليات تفكير تتخطى المصلحة الذاتية او مصلحة العشيرة و القبيلة و الحق في وطن حر ’ و يبدو ان مفهوم الوطن و الصراع من اجل التحرر و الو حدة الوطنية… لم يكن لها مدلول واضح في بداية الاستعمار المباشر ’ بل ان نظرة السكان للعنصر الفرنسي كانت نظرة اعجاب يشوبها حذر
.
*:انظر كتاب :jean pourcet, paysage et problèmes ruraux e, Tunisie
**:”””:Pierre Berdin, la vie d’un douar
فاما الإعجاب فهو إعجاب الطرف الضعيف بالطرف القوي ’ الذي جلب معه رؤية جديدة للعمران و البنى التحتية و مدارس التعليم و المؤسسات الصحية الادارية و نمط حياة جديد يعتمد على تكنولوجيا حديثة و مظاهر القوة و التحكم في الطيعة…
أما الحذر فمرده سببان ’ حذر طبيعي ’ اي حذر الإنسان من كل ما يجهله ’ و حذر إضافي تعلمه السكان فتوارثوه ’ ليتحول إلى سلوك عندهم و هو ناتج عما تعرضت له الجهة بسبب طبعيها الغنية ’ من غارات لم توقف عبر قرون . و سيتحول هذا الحذر ’ شيئا فشيئا ’ إلى سلوك عدواني مع ظهور الحركة الوطنية في العشرينات و الثلاثينات.
و قد كانت ردة الفعل المنظمة الأولى في تاريخ جندوبة هو خروج مظاهرة في 6 أفريل 1922 مساندة للباي الذي أعلن حينها عزمه على الاستقالة و كان حزب الدستور القديم و هو التنظيم السياسي الأكثر نضجا و تنظيما. بقيادة الثعالبي و الذي بدا ينشط داخل تراب الوطن و الاتصال بالجهات و منهم جهة جندوبة ’ لبث وعي جديد بأهمية الوطن و المواطنة و بضرورة الدفاع عن وحدة هذا الوطن و حريته و قد استجاب أهالي جندوبة لدعوات الحزب و نظموا مظاهرة ستتلوها مظاهرات أخرى متفرقة و اجتماعات سرية و علنية بالأسواق الأسبوعية كان أهم زعمائها المحليين عبد الرحمان اليعلاوي الذي كان برأس الاجتماعات و يكتب بالصحف*عن مشاكل الجهة و قد توصل إلى اصداربرقية احتجاج باسمالاهالى فى جريدة l’humanité عبر فيها عن ضجر الأهالي من السياسية الاستعمارية الفرنسية و قد برز بعض الشبان الآخرون مثل لخضر مقريش بمنطقة ربيعة وهو المسؤول عن الهيئة الدستورية المحلية و كذلك حسن بن محفوظ و الطاهر بن محفوظ من منطقة بوسالم. و أصبحت الجهة تعيش بعض الحراك السياسي بفضل وجود بعض ا
بناء المنطقة الذين درسوا بالمدارس العربية-الفرنسية و تفاعل هؤلاء مع الزعامات الوطنية و التنسيق معهم لبث فكر ووعي جديد و قراءه الصحف و نقل فحواها إلى الموطنين. و كانت قضية “عناقيد الغضب” رحلة هامة في بلورة الوعي الأهلي و ارتباط مصالحه المحلية بالحراك على مستوى وطني من خلال اهتمام الحزب و الصحف اليومية بهذه القضية ’ و تكاد نجزم ان هذه المرحلة ’ كانت بمثابة التحول الجذري لدى أهالي جندوبة في علاقتهم بالمركز و بالجهات الأخرفقد تحولت قبائل خمير و أولاد بوسالم و جندوبة من معادين للباي إلى مساندين له( حفاظا على سيادة الدولة ) و من قبائل منغلقة على ذاتها إلى مواطنين يتفاعلون مع ما يحدث في باقى جهات البلاد في إطار وطني( بعيدا عن إطار العشيرة و القبيلة) و يهتمون بقضايا أخرى غيرقضايا مزارعهم ومحاصيلهم الفلاحية
:كانتهناك مجموعة من الصحف التي اسسها تونسيون مثل صحيفة : الامة –مرشد الامة-الاتحاد
[i]:عبد الحميد الهلالي: نفس المرجع ص 139.1:قضية عناقيد الغضب : هي قضية عاملين اقتطفا عنقودي عنب فقبض عليهما المعمر و قام بتعذيبهما لعدة ساعات مما اسفر عن اضرار جسدية و رفع حزب الدستور قضية ضده و لاقت هذه القية انتشارا واسعا في وسائل الاعلام المحلية و الفرنسية و الاجنبية.
. لكن هذا التحول لم يكن عاما بل كان يختصر على بعض العدول و التجار و بعض أهل البلاد… اما بقية الشعب فإنه بمعزل عن المسالة الوطنية ’هكذا وصف الناشط عبد الرحمان اليعلاوي أصيل المنطقة ’ الوضع لأعضاء حزب الدستور.
و ستشهد فترة الثلاثينات والأربعينات تحولات اجتماعية و سياسية هامة تمثلت في سيطرة حزب الدستور الجديد على المشهد السياسي بالبلاد اعتمادا على كاريزما الزعيم الحبيب بورقيبة و مجموعة من رفاقه كانوا قد ترددوا على منطقة جندوبة و باقي الجهات عديد المرات و منهم صالح بن يوسف و محمود بورقيبة و سليمان بن سليمان و الهادي نويرة و بلقاسم القناوي و يوسف بن عمر الرويس و .
و قد كان لتردد الزعماء الوطنيون على جهة جندوبة اثرا حاسما في إخراج أهاليها من حالة العزلة السياسية و الاجتماعية التي كانت تعيشها و تحويل اهتمامها من الشأن اليومي الذي يخص الفرد و العشيرة إلى الشأن العام بإدخال مفردات الوطن و المواطنة و الحرية السياسية و الاقتصادية و الوحدة الوطنية و النضال من اجل الاستقلال و قد كانت هذه المفردات غائبة بشكل يكاد يكون كليا فى خطاب القبائل و شيوخها و زعمائها و كان ذلك مفهوما في حينه،(مثلما شرحنا سابقا).
لقد اعتمد زعماء حزب الدستور الجديد أسلوبا جديدا في التعامل مع الأهالي يتمثل في الاتصال المباشر بهم في الأسواق الأسبوعية و في منازلهم و مقرات اجتماعاتهم و هو ما أدى إلى خلق نخبة سياسية جهوية مؤمنة بالمطالب الوطنية زامنت عملية الربط و التواصل بين الديوان السياسي للحزب و أهالي جندوبة .
و قد زار الزعيم الحبيب بورقيبة منطقة جندوبة في مناسبتين :
الأولى كانت سنة 1936 و قد زار خلالها منطقة طبرقة ، ثم قام بزيارة ثانية في اوج الحراك السياسي دامت ثلاثة أيام هي 22-23 و 24 سبتمبر 1937 ،زار خلالها بوسالم و جندوبة ثم فرنانة و عين دراهم و طبرقة و قد رافقت زيارته الى جندوبة عدة مظاهرات مساندة و من أهمها مظاهرة نظمت بجندوبة و التحق بها حوالي 2000 شخص ، قامت على إثرها سلطات الاحتلال باعتقال المناضل و القيادي الجهوي عيسى بن الصخري و 16 عضو قياديا آخرين .
*:كانت هناك مجموعة من الصحف التي اسسها تونسيون مثل صحيفة : الامة –مرشد الامة-الاتحاد
: عبد الحميد الهلالي: نفس المرجع ص 139.
1:قضية عناقيد الغضب : هي قضية عاملين اقتطفا عنقودي عنب فقبض عليهما المعمر و قام بتعذيبهما لعدة ساعات مما اسفر عن اضرار جسدية و رفع حزب الدستور قضية ضده و لاقت هذه القية انتشارا واسعا في وسائل الاعلام المحلية و الفرنسية و الاجنبي
قضايا مزارعهم و محاصيلهم الفلاحية. لكن هذا التحول لم يكن عاما بل كان يختصر على بعض العدول و التجار و بعض أهل البلاد… اما بقية الشعب فإنما بمعزل عن المسالة الوطنية ’هكذا وصف الناشط عبد الرحمان اليعلاوي أصيل المنطقة ’ الوضع لأعضاء حزب الدستور.
و ستشهد فترة الثلاثينات والأربعينات تحولات اجتماعية و سياسية هامة تمثلت في سيطرة حزب الدستور الجديد على المشهد السياسي بالبلاد اعتماد على كاريزما الزعيم الحبيب بورقيبة و مجموعة من رفاقه كانوا قد ترددوا على منطقة جندوبة و باقي الجهات عديد المرات و منهم صالح بن يونس و محمود بورقيبة و سليمان بن سليمان و الهادي نويرة و بلقاسم القناوي و يوسف بن عمر الرويس و آخرون .
و قد كان لتردد الزعماء الوطنيون على جهة جندوبة اثرا حاسما في إخراج أهاليها من حالة العزلة السياسية و الاجتماعية التي كانت تعيشها و تحويل اهتمامها من الشأن اليومي الذي يخص الفرد و العشيرة إلى الشأن العام بإدخال مفردات الوطن و المواطنة و الحرية السياسية و الاقتصادية و الوحدة الوطنية و النضال من اجل الاستقلال و قد كانت هذه المفردات غائبة بشكل يكاد يكون كلياني خطاب القبائل و شيوخها و زعمائها و كان ذلك مفهوما في حينه،(مثلما شرحنا سابقا).
لقد اعتمد زعماء حزب الدستور الجديد أسلوبا جديدا في التعامل مع الأهالي يتمثل في الاتصال المباشر بهم في الأسواق الأسبوعية و في منازلهم و مقرات اجتماعاتهم و هو ما أدى إلى خلق نخبة سياسية جهوية مؤمنة بالمطالب الوطنية زامنت عملية الربط و التواصل بين الديوان السياسي للحزب و أهالي جندوبة .
و قد زار الزعيم الحبيب بورقيبة منطقة جندوبة في مناسبتين :
الأولى كانت سنة 1936 و قد زار خلالها منطقة طبرقة ، ثم قام بزيارة ثانية في اوج الحراك السياسي دامت ثلاثة أيام هي 22-23 و 24 سبتمبر 1937 ،زار خلالها بوسالم و جندوبة ثم فرنانة و عين دراهم و طبرقة و قد رافقت زيارته الى جندوبة عدة مظاهرات مساندة و من أهمها مظاهرة نظمت بجندوبة و التحق بها حوالي 2000 شخص ، قامت على إثرها سلطات الاحتلال باعتقال المناضل و القيادي الجهوي عيسى بن الصخري و 16 عضو قياديا آخرين .
:عبد الحميد الهلالي : نفس المرجع السابق ص 175 .
:انظر كتاب: عبد الحميد الهلالي :تونس 1881 1956 و رضا العش : محطات نيرة في تاريخ جندوبة.
: عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 1
و قد خطب الحبيب بورقيبة و سط الجماهير و تحدث عن الوحدة الوطنية و ضرورة الالتفاف حول هدف مشترك و النضال من اجل تحرير تونس كما أولى اهتماما خاصا بقضايا الجهة الزراعية و قضايا المديونية و الفقر و بضرورة و التصدي للمستعمر و الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة.
كما زار صالح بن يوسف جهة جندوبة سنة 1937 صحبة الهادي نويرة و تلت هذه الزيارة حملة لشن اضراب مساندة لزعماء الحركة الوطنية بالجزائر و المغرب بدعوة من قادة الحزب و كان الاضراب بجندوبة من انجح الاضرابات نظرا لعلاقة الجهة بالقطر الجزائري و لتواجد عدة مناضلين جزائريين بالمنطقة .كما عاود صالح بن يوسف زيارة جندوبة في سنتي 1947-1950
و كذلك زارها محمود بورقيبة و بلقاسم القناوي و خميس بلحسن و يوسف بن عمر الرويس و سليمان بن سليمان في مناسبات متعددة و عقدوا اجتماعات شعبية متعددة صحبة رموز الجهة و منهم عيسى بالصخير من جندوبة و يوسف بوريال رئيس شعبة فرنانة و ساسي بن علي بن عياد و العيفة بن خميس و علي بالحاج شلبي و بلقاسم بن عبد الله….
لقد نتج عن هذا التفاعل المتواصل بين القيادات الوطنية الجهوية و الالتقاء المتواصل بالفلاحين و التجار أصيلي المنطقة إلى التفاف نسبة هامة من الشباب حول حزب الدستور حيث بلغ عدد منخرطي الشعبة الدستورية بسوق الأربعاء 4500 عنصر و 3000 بطبرقة و 400 عضو ببوسالم و 40 بغار الماء في الثلاثينات ،
و كثرت المظاهرات التي يقودها رموز الجهة بكل من بوسالم و جندوبة و طبرقة و عين دراهم و غار الدماء كما تعددت مظاهر الاحتجاج
و نلاحظ تطور خطاب أبناء أولاد بوسالم و جندوبة و الرقبة و خمير و استيعابه للمفاهيم التي أصبحت تحكم العلاقة بين الجهة و باقي جهات البلاد .
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص22
. عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق 23
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق 296
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 12-13
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 16
*:يقول المعمر (Hunon)
انه “لم يعد يعيش بأمان و ان طباع الاهالي تغيرت ….و يكرهوننا و هذا تحت تاثيرالدستور” من كتاب ع.الحميد هلال. نفس المرجع ص 14يقول عبد الله بن سعد في خطاب في تجمع بغار الدماء حضر 2000 شخص “إننا نطالب بحقوقنا…لنا رجال يدافعون عنا….يدافعون عن دينكم…” و يقول علي بالحاج شلبي القناوي في خطاب آخر في 13نوفمبربطبرقة 1936 “كل المسلمين يجب ان يتحدوا ، سواء في طبرقة، باجة ، تونس او قفصة و ان يكونوا متضامنين ، ان هذا التحول في الخطاب هو دلالة لفظية عن تطور الوعي لدى أهالي الجهة بحضور مفهوم الوطن و المواطنة وانتشار الانتماء الحزبي الذي مثل الخيط الرابط بين أبناء الجهة و “وطنهم الجديد”* بأبعاده الجغرافية و السياسية و قد مثلت هذه المرحلة مرحلة تصالح بين قبائل الجهة و السلطة المركزية التي التحمت بهم و شاركتهم مشاغلهم و اشركتهم في قضايا البلاد و كانت أحداث 4 أفري 1938 بوادي مليز تتويجا لهذا المسار ، حيث نفذ أبناء وادي مليز و أعضاء من الشعبة الدستورية بجندوبة و بتعليمات من الديوان السياسي، اجتماعا شعبيا حضره 2000 شخص عقبته عملية اعتقال لأعضاء الشعبة الدستورية بجندوبة و نتجت عنه أحداث عنف متبادل بين المواطنين و قوات المراقبة المدنية لأيام متتالية إلى غاية أحداث 09 أفريل 1938 بتونس العاصمة.
ثم تلتها أحداث المرجى في 20 نوفمبر 1949 حيث نظم عمال المرجى إضرابا دام 110 يوما كانت له تداعيات جهوية
و وطنية هامة حيث تضامن عمال الكاف الزراعيين و عمال ضيعة (Dreux) مع عمال منجم القلعة الجرداء وعمال
النفيضة يوم 20 نوفمبر1949قد زار الزعيم فرحات حشاد عمال المرجي يوم 16 نوفمبر 1949 خطب فيهم ’ و نذكر ان فرحات حشاد كان قد زار عين دراهم في شهر مارس 1947 و طبرقة و بني مطير و جندوبة في شهر أكتوبر 1948 ثم عاد وزار بوسالم و بني مطير يومي 20-21 سبتمبر 1949 و في 23-24 سبتمبر 1949 منطقة جندوبة و واد المعدن و جبل حلوف ثم عاد في شهر نوفمبر 1950 و مارس من نفس السنة.
و كان يلتقي بعمال المناجم و السدود و عمال المزارع . و كان يحدثهم عن الحق النقابي و ضرورة النضال من اجل فرضه و كانت خطاباته تجمع بين البعد النقابي و البعد السياسي و قد تكونت عديد الخلايا النقابية الناشطة ضد الاتحاد العام التونسية للشغل كنتيجة مباشرة لنشاط الزعيم فرحات حشاد و عديد الزعامات النقابية الشابة بالجهة و من بينهم الحسين بن الطاهر هلالي و حبيب القرضي و الهادي
:عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 32 .
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 12-13
عبد الحميد هلالي : نفس المرجع السابق ص 59
:انظر كتاب عبد الحميد الهلالي تونس 1881-1956 و كتاب رضا العش، محطات نيرة من تاريخ جندوبة.
الجبالي عن جهة عين دراهم-طبرقة و صالح القلعاوي و حمدي يوسف و محمد بعواجة عن سهول جندوبة حيث وصل عدد الإضرابات النقابية بين 46- 1949، 25 إضرابا.
و ما يهمنا في هذا البحث ، ليس كم الأحداث النقابية و لا عدد المنخرطين، على أهميتهما ، و إنما مدى انفتاح سكان الجهة على بعد جديد كان غائبا في الخطاب و الفعل الاجتماعي الريفي المزارع و هو الفعل النقابي المنظم ، حيث نلاحظ و ييسر القبول الجمعي لمفهوم الفعل النقابي و العمل المنظم للمطالبة بالحقوق العمالية حيث تحولت هذه الفئات العمالية نفسها من العمل ضمن نظام “الخماسة” أو العمل بالعشر ،يؤدونه بمشاركة كل أفراد عائلاتهم و لم تكن لهم حقوق محددة ينجزونها و إنما يتكفلون بكل الأشغال التي يحددها صاحب الضيعة و كانوا يعالجون مشاكلهم مع ملاكي الأراضي بشكل فردي.
تحولت هذه الفئات إذا و بسرعة إلى فئات منظمة في قطاعات المناجم و الضيعات الزراعية و السدود.
و نتصور ان هذا التحول يعود أساسا إلى عامل الثقة الذي كان سائدا بين الزعامات النقابية الوطنية و خاصة الزعيم فرحات حشاد و قدرته على الإقناع و الجذب و افتكاك اهتمام و إعجاب القطاعات العمالية الواسعة في ضل غياب البعد المعرفي لدى هذه القطاعات حتى ان فعلها النقابي نابع من وعي جماعي بحقيقة أوضاعهم و طبيعة المطالب النقابية .
ان قوة الكاريزما التي كان يتمتع بها كل من فرحات حشاد و الحبيب بورقيبة و صالح بن يوسف و غيرهم ممن يحتلون الصف الثاني من القيادات ،لتبدو متغيرا أساسيا في تفسير حالة التحول السياسي و الثقافي و النقابي لدى قطاعات واسعة من الفلاحين و التجار و الموظفين بالجهة ، غير ان التلاحم ما كان ليحصل بدون قبول إرادي من عموم الأفراد إذ ان نجاح السلطة يعتمد على مبدأ القبول بها
و مما يؤكد حالة القبول و الرغبة في الفعل الاجتماعي إضافة إلى التحركات السياسية و النقابية هو إقبال خريجي جامع الزيتونة * و المدارس العربية-الفرنسية مثل بلحسن الدريسي و عبد الحكيم العيادي و الصادق السعيدي و غيرهم على تكوين الجمعيات الجمعية الخيرية الإسلامية التي فتحت اكتتابا لبناء مدرسة قرآنية و هي مدرسة النور** و جمعية الشبان المسلمين التي أمنت إلقاء المحاضرات في الدين و التاريخ ….
و جمعية التعاون الثقافي التي أنشأت مكتبة بمدينة جندوبة و هو بعد آخر، جديد ، اي بعد العمل الجمعيات الذي يرتكز على مفهوم الوعي ببعد المواطنة و المساهمة طواعية و بشكل منظم في التصدي
:عبد الحميد الهلالي : المرجع السابق ،ص 342
:ماكس فيبير(Max Weber)
*: كان عدد الطلاب أصيلي جندوبة بجامع الزيتونة 51 طالبا ، مأخوذا عن ع.الهلالي من نفس المرجع ص 309.
**: مدرسة النور : هذه مدرسة قائمة إلى غاية الآن وسط مدينة جندوبة.
لقضايا محددة تهم المجموعة البشرية التي يستهدفها هذا العمل و هو تحول نوعي كان نتيجة طبيعية لبدء انتشار التعليم لدى فئة من أبناء الجهة و تبلور وعي سياسي جديد قطع مع الانتماء القبلي و زرع مفهوم المواطنة و قيم التحاور السياسي و الاقتصادي ، و كذلك بدء تجذر الفكر النقابي الوطني الذي رفع شعار الحق النقابي في وطن حرّ، و ما كان لهذا التحول ان يحصل بيسر لولا قوة الكاريزما التي كانت تحمل مضامين وطنية و أخلاقية و جدت صدى عميقا لدى فئات واسعة من السكان تميل بطبيعتها البدوية الى الخطاب الصادق و قد كان ظهور الاتحاد العام للفلاحة التونسية سنة 1950 و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة سنة 1948 و انخراط فلاحي و تجار و صناعي الجهة بهاتين المنظمتين تتويجا طبيعيا للفعل و المراكمة التي برزت منذ العشرينات من القرن العشرين.