د. شكري تيساوي و د. معز عيادي.
الملخص:
يعتبر القطاع الفلاحي في تونس قطاعا استراتيجيا حيث انه يساهم بقرابة 9% من إجمالي الناتج المحلي ويشغل ما يقارب 18% من السكان الناشطين. وقد كان هذا القطاع يساهم بـ 24 % من الناتج الوطني الخام ويشغل حوالي5 4% من اليد العاملة في تونس في سنوات الستينات من القرن الماضى. وحيث كان هذا القطاع ولازال يمثل ركيزة هامة في الاقتصاد التونسي فإن التساؤل أسباب تراجع هذا القطاع الهام تبقى ملحة ؟ وللإجابة عن هذا السؤال سوف نأخذ ولاية جندوبة وإقليم الشمال الغربي مثالا،ونحاول اختبار السياسات الاقتصادية الوطنية منذ الاستقلال . وقد عرض الكاتبين نتائج سياسة التعاضد (1962 – 1969) والانفتاح الاقتصادي (1971 – 2016) وتأثيرها على القطاع الفلاحي بإقليم الشمال الغربي بصفة عامة وبولاية جندوبة بصفة خاصة. وقد اقترح الكاتبين رؤية جديدة لفلاحة المستقبل. وتعتمد هذه الرؤية أساسا على مقاربتين. مقاربة أولى تعتمد على تنمية فلاحية متكاملة تستجيب لمتطلبات السوق وذلك من خلال انخراط القطاع الخاص في استثمارات جديدة،وفلاحة عصرية تنافسية ذات إنتاجية وقيمة مضافة عالية في المناطق ذات المؤهلات الفلاحية المهمة. ومقاربة ثانية ذات بعد اقتصادي اجتماعي ترمي بالأساس إلى محاربة الفقر والبطالة في الوسط الريفي عبر تحسين دخل الفلاحين الصغار، هذه المقاربة تهم الفلاحة في المناطق الجبلية والريفية، وترمي أساسا إلى فك عزلة أهالينا في هذه المناطق الوعرة. وتعتمد هذه الإستراتيجية على فكرة الاستثمار والتنظيم كمعادلة للنجاح وتتمحور حول: جعل الفلاحة قاطرة للتنمية بتونس خلال 15 سنة القادمة، وتبني التجميع كنموذج للتنظيم القطاع الفلاحي ، مع ضمان استدامة الفلاحة التونسية. وتعتمد هذه الإستراتيجية كذلك على ربط الفلاحة بالبحث العلمي وبالتقنيات الجديدة التي ستمكننا من التقليل من كلفة الإنتاج والرفع في هامش الربح أخذا بعين الاعتبار خصوصيات إقليم الشمال الغربي المناخية وطبيعة التربة وسوسيولوجية السكان.
1. المقدمــة:
يعتبرالقطاع الفلاحي في تونس قطاعا استراتيجيا بالنظر إلى أهميته على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي حيث انه يساهم ب8,5 % من إجمالي الناتج المحلي ويشغل ما يقارب 18% من السكان الناشطين بالإضافة إلى فرص عمل موسمية هامة. وبالتالي فهو ذو أهمية اجتماعية حيث يضمن دخل دائم لما يقارب نصف مليون فلاح. وتمثل الاستثمارات الخاصّة 57% من الاستثمارات الفلاحية بينما تمثّل الصادرات الفلاحيّة ما بين 10 إلى 17% من مجمل الصادرات التونسية. وقد كان هذا القطاع يساهم بـ 24% الوطني الخام ويشغل حوالي5 4% من اليد العاملة في تونس في السنوات :1962-1963- 1964وحيث كان هذا القطاع ولازال يمثل ركيزة هامة في الاقتصاد التونسي فإن التساؤل أسباب تراجع هذا القطاع الهام تبقى ملحة ؟
وللإجابة عن هذا السؤال سوف نأخذ ولاية جندوبة وإقليم الشمال الغربي مثالا،ونحاول اختبار السياسات الاقتصادية الوطنية منذ الاستقلال.
2.الوضع الفلاحي في تونس والإمكانيات الكامنة:
تمتد الأراضي الزراعية للبلاد التونسية، حسب إحصائيات وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية لعام 2017 (1)، على أكثر من 10 مليون هكتار وبذلك فهي تمثل 62٪ من المساحة الجملية، منها 5.3 مليون هكتار(تمثل 32٪ من المساحة الجملية للأراضي) تتوزعها 48% من الأشجار المثمرة التي تتكون في غالبيتها من غابات الزيتون (1.5 مليون هكتار) و38% من الزراعات الكبرى وأغلبها من الحبوب (يتركز 80 ٪ من الإنتاج في الشمال) والبقية زراعات مختلفة. تمسح الأراضي المملوكة للدولة 500 ألف هكتار بينها قرابة 332 ألف هكتار مسلمة لشركات الإحياء والفنيين و168 ألف هكتار تحت التصرّف المباشر للدولة. وتقدر الموارد المائية الجملية بـ 4, مليار م³ سنويا حيث يستهلك القطاع الفلاحي لوحده 80٪ من الموارد وهي تستخدم في الري. تمتد المناطق المروية على 436 ألف هكتار. وقد بلغت المساحات الجملية المجهزة بمعدات الاقتصاد في مياه الري نحو 388 ألف هكتار في عام 2016 وهو ما يمثل 89 ٪ من المساحة الجملية المروية. ففي تونس يرتكز قطاع تربية الماشية أساسا على الأغنام (3.7 مليون وحدة أنثى) والأبقار(450 ألف وحدة أنثى) والماعز(700 ألف وحدة أنثى) والجمال (56 ألف وحدة أنثى) والأرانب (56 ألف وحدة أنثى) والدواجن (145 مليون وحدة دجاج). وقد قدر إنتاج الحليب بـ 1376 مليون لتر وبلغ إنتاج اللحوم الحمراء 125 ألف طن وإنتاج الصيد البحري ب 435 ألف طن خلال سنة 2015. أما بالنسبة لتطور المنظومات والقيمة المضافة فقد أكدت الإحصائيات على مساهمة الصناعات الغذائية بـ3 ٪ من الناتج المحلي الخام وبـ20 ٪ من القيمة المضافة الصناعية. حيث انه يوفر قرابة 80 ألف موطن شغل. وتطور هذا القطاع أساسا في مجال الألبان واللحوم والحبوب والزيوت والدهون والمشروبات و المعلبات.
3.الوضع الفلاحي في إقليم الشمال الغربي:
إقليم الشمال الغربي هو أحد الأقاليم الاقتصادية التونسيّة الستة. ويتميز بموقع جغرافي خاص لقربه من تونس الكبرى (60 كم) ولمجاورته لشريط حدودي مع الجزائر على طول 262 كلم ونافذة على أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط على طول 51 كلم. ويعتبر إقليم الشمال الغربي إقليما فلاحيا بامتياز نظرا لخصوبة الأرض ووفرة المياه وامتداد السهول وتواجد الحيوانات وتوفر اليد ألعاملة حيث أنه يشغل ما يقارب 35% من السكان الناشطين. ويقسم الإقليم من النّاحية الإدارية إلى أربعة ولايات وهي (باجة، جندوبة، الكاف، سليانة) ويمسح الشمال الغربي نحو 16.1 ألف كم² أي ما يعادل 10% من مساحة البلاد ويبلغ عدد سكان الإقليم مليون و171 ألف نسمة وتعتبر ولاية جندوبة أكثر ولايات الشمال الغربي سكانا بـ402 ألف نسمة (2 و3). حيث أن الإسقاطات السكانية تدل على ارتفاع عدد سكان الإقليم إلى مليون و300 ألف نسمة في غضون 2024. وتقدّر الكثافة السّكانية بالمنطقة بـ91 ساكن/كم² وهو معدّل أعلى من المعدّل الوطني (65 ساكن/كم²) فيما تبلغ نسبة التحضّر 41% وهو أيضا أقل من المعدّل الوطني (67%). وتمتد الأراضي الفلاحية الصالحة للزراعة، حسب إحصائيات ديوان تنمية الشمال الغربي لعام 2017، على مليون و556 ألف هكتار حيث تمثل الأراضي المحروثة حوالي 71% والغابات والمراعي بـ29% من جملة مساحة الأراضي الفلاحية الصالحة للزراعية. حيث أن استغلال الأراضي الزراعية كانت في حدود 55% من الزراعات الكبرى وأغلبها من الحبوب و16% من الأشجار المثمرة (30 ألف هكتار غابات الزيتون). وتقدر الموارد المائية الجملية بـ1.8 مليار م³ سنويا حيث تمتد المناطق المروية على 100 ألف هكتار بنسبة استغلال وصلت إلى 63%. ويرتكز قطاع تربية الماشية في الشمال الغربي أساسا على الأبقار (170 ألف وحدة أنثى) والأغنام (782 ألف وحدة أنثى) والماعز (143 ألف وحدة أنثى). ويساهم إقليم الشمال الغربي في الإنتاج الوطني بنسبة 54% من الحبوب و18% من الخضروات و40% من اللحوم الحمراء و30% من الألبان (2).
وملخص القول أن إقليم الشمال الغربي التونسي هو جنة ألمتناقضات ولعل ولاية جندوبة تُعد أصدق دليل على هذه التناقضات.
4.الوضع الفلاحي في ولاية جندوبة:
تعدُ ولاية جندوبة 402 ألف ساكن (4)، يقطن 27.3 %منهم بالمناطق الحضرية و72.7% بالمناطق الريفية و تمثل نسبة سكان الغابة بالجهة 52 % من إجمالي السكان وتبلغ نسبة الفقر %25 والبطالة 25.6 والأمية 32.1. %(5) وهي رغم توفرها على منطقة غابية تمد على مساحة جملية قدرها 118.470هك (3)، ويحتوي هذا الغطاء الغابي على عدة أنواع من أشجار: الزان والفرنان والصنوبر الحلبي والأعشاب الطبية مثل الريحان والزعتر الكليل… والنباتات الفطرية والحيوانات الغابية مثل: الأيل والخنزير والجواد البربري إضافة عدة أنواع من الطيور إلى جانب العديد من العيون المائية الإستشفائية الطبيعية وكميات هائلة من الطين ذو الجودة العالية والمستعمل في صناعة الأواني الخزفية والآجر والقرميد والخيزران والخفاف وعدة أنواع من الأخشاب الصالحة لصناعة التحف بأنواعها .وهي في مجملها أراضي دولية، تحت تصرف الإدارة العامة للغابات وهي تحتكر عملية التصرف في كل منتجاتها من حطب وفرنان ونباتات طبية.
وإضافة إلى هذه الثروات التي يدعمها الصيد البحري بإنتاج 350 طن من الأسماك، فان سهول مجردة تتوفرعلى مساحة هامة من الأراضي الفلاحية (286.200هك.)،41 ألف هكتار منها أراضي سقوية وباقي المساحة أراضي بعلية ولكنها تتلقى سنويا كميات هامة من الأمطار ( بين 400 و1200 مم) (4) وهي تساهم في الإنتاج الوطني الفلاحي،حسب إحصائيات وكالة النهوض بالإستثمارات الفلاحية (1): حيث انها تساهم ب 9% من الإنتاج القومي من الحبوب و6% من اللحوم و 14% من الألبان و 16% من إنتاج البطاطة. ويشغل قطاع الفلاحة بجندوبة حوالي 38 %من اليد العاملة بالجهة ويختص بالزراعات الكبرى وتربية الماشية والأشجار المثمرة إلى جانب الخضر والأعلاف.
والسؤال كيف عجزت هذه الجهة على غرار إقليم الشمال الغربي على استغلال كل هذه الثروات في العشريات الأخيرة ؟
5.السياسات الاقتصادية الوطنية وتأثيرها على القطاع الفلاحي:
5.1. نتائج سياسة التعاضد :1962 – 1969 .
انبت سياسة التعاضد “الاشتراكية الدستورية” على مبدأ تأميم الأراضي الخاصة وتشريك المزارعين والعملة في عملية الإنتاج تحت إشراف الدولة وأوكلت عملية التصرف إلى وحدات إدارية تسمى التعاضديات، وقد تم اعتماد سياسة التدرج في الانجاز حيث تمت مصادرة أراضي الشمال الغربي بنية التوسع نحو الجهات الأخرى، كما تم إقرار مبدأ مصادرة أراضي صغار الفلاحين ثم التوسع نحو الضيعات الكبرى (6 و7).
وكانت نتيجة هذه السياسة أن تمت مصادرة حوالي 25 % من الأراضي الخصبة في جهة جندوبة في بداية التنفيذ (1962- 1964) وهي أراضي على ملك حوالي 70 % من فلاحي الولاية وتم إخضاع المزارعين إلى نظام التأجير العمومي وتمت ميكنة العمل الفلاحي مما دفع آلاف العائلات إلى البطالة الجبرية ومئات المزارعين إلى البطالة المقنعة، حيث أقر التقرير الثامن للمخطط الثلاثي الثاني أن العمال لا يشتغلون سوى 13 ساعة في الشهر كما تم إتلاف آلاف الهكتارات من القوارص والأشجار المثمرة الأخرى والعنب لتعويضها بزراعة الحبوب والخضر إضافة إلى خسارة الآلاف من رؤوس الأغنام والأبقار التي أجبر أصحابها على بيعها بأبخس الأثمان.
و لم يتعدى الاستثمار العمومي في القطاع 24 %من جملة الاستثمارات في السنوات 1962- 1966 وتم تخصيص 50 %من هذه النسبة لبناء السدود و تخصيص الجانب الأهم من النسبة المتبقية لتركيز التعاضديات وشراء التجهيزات والتسيير وهي نسبة ضعيفة مقارنة بما تم تخصيصه لبناء صناعات تحويلية وإلكترونية وميكانيكية وصناعة الملابس وكذلك لما تم رصده لبناء بنية تحتية حديثة في إقليم العاصمة وجهة الساحل والذي كان يعادل حوالي 80 % في جملته من الموازنات العامة منذ 1962 إلى نهاية الستينات وهي أرقام متوفرة بميزانيات الدولة إلى غاية 1969 (6) .
نستخلص إذا من هذه الأرقام أن الاستثمارات في القطاع الفلاحي اهتمت بما هو وطني ( بناء سدود بالشمال ) وهو ما يفسر تدهور نسبة الإنتاج الفلاحي في الدخل الوطني. حيث كانت نسبة مساهمة الإنتاج الفلاحي تقدر بـ 24 % في سنة 1960 لتصل إلى 14 % في سنة 1970. وعرفت جهة جندوبة تطورا هاما في ظاهرة النزوح حيث غادرها 23 ألف مواطن سنة 1966 فقط نحو المناطق المجاورة كما غادرها في المدة اللاحقة 8 آلاف مواطن نحو الخارج وهو ما أدى إلى إفراغ الجهة من عمالتها القادرة على الإنتاج.
5.2.نتائج الانفتاح الاقتصادي منذ 1971 إلى غاية 2016
عندما سقط نظام التعاضد بسبب رفض الجهات الشرقية له وفشله في تحقيق النتائج المؤملة وتم إرجاع الأراضي إلى أصحابها بمقتضى قانون 22 سبتمبر 1969، واجه فلاحوا الجهة عشرية سوداء أخرى بسبب إتلاف إمكاناتهم المادية و امتناع البنك الوطني الفلاحي عن تمويل عملية الإنتاج بالنسبة لصغار الفلاحين وهو ما تسبب في موجات نزوح جديدة وعمليات بيع للأراضي بأثمان بخسة وارتفاع نسبة البطالة في الريف بالجهة (7).
ولم تكن فترة الانفتاح الاقتصادي أفضل حالا بالنسبة لجهة الشمال الغربي إذ بالرغم من المرونة النسبية للبنك الوطني الفلاحي في تمويل عملية الإنتاج في أواسط الثمانينات واستثمار الدولة في انجاز منطقة سقوية عمومية بالجهة بلغت مساحتها 36 ألف هكتار(1980 -1990 ) وهو ما سمح بفتح بعض المسالك الريفية والسقوية وعودة عملية إنتاج الخضروات وتربية الماشية وزراعة الأشجار المثمرة.
فان الدولة لا تزال تحافظ على خياراتها المتمثلة في فرض زراعة الحبوب كخيار استراتيجي لتحقيق الاكتفاء الذاتي مع فرض تسعيرة مجحفة عند الإنتاج، حيث لم يتجاوز سعر القنطار 26 دينارا إلى غاية 1994 بينما تم رفع الدعم عن البذور والأسمدة والمحروقات وقطع غيار الآلات الزراعية كما تم رفع الامتيازات الديوانية التي كان يتمتع بها الفلاحون عند استيراد آلة حصاد أو جرار فأغرقت كل هذه الإجراءات الفلاحين الصغار والكبار في الجهة في دوامة المديونية ليغلق باب الاقتراض من جديد بعد أن فتح لمدة وجيزة، حيث لا يتمتع في السنين الأخيرة بالقروض الموسمية سوى 24 % من الفلاحين (1 و7).
وقد فُرض على فلاحي المناطق السقوية دفع معلوم مقابل مياه الريّ قدر بـ: 125 مليم للمتر المكعب وحدد هذا المبلغ لخلاص معلوم الكهرباء وعمليات صيانة شبكة المياه والطرقات (4) إلا انه تم إهمال المناطق السقوية تماما في التسعينات. رغم أن عمليات الخلاص فاقت في عديد المرات نسبة 115%، علما وأن الإدارة المركزية فرضت كذلك اقتطاع ميزانية التصرف للمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بجندوبة من معاليم خلاص الماء لتجبر الإدارة الجهوية على اقتطاع المعلوم المذكور ولو بالقضاء.
5.3. سياسات الدولة في الصناعات التحويلية بجهة جندوبة:
تعتبر ولاية جندوبة والشمال الغربي محيطا ملائما موضوعيا لبناء صناعة تحويلية هامة، كان يمكن التفكير فيها منذ الستينات، نظرا لتوفر المادة الأولية من حبوب ولحوم وألبان وخضر وغلال، إضافة إلى أن كلفة التصنيع محليا اقل كلفة بكثير من نقلها على مسافات تفوق 200 كم لتصنيعها كما يمكن التفكير في السوق الجزائرية والإفريقية (عبر الجزائر) التي كانت ولا تزال سوقا واعدة وتحتاج إلى كل ما تنتجه الجهة من مواد فلاحية طازجة ومصنعة إضافة إلى مواد البناء والملابس الجاهزة وغيرها من السلع (7).
و كان يمكن التعويل على توفر المواد الأولية على عين المكان (فلاحة – مواد إنشائية – مواد غابية) لبعث صناعات مربحة ومضمونة الترويج (حيث تم إهمال السوق الجزائرية رغم أهميتها لفائدة السوق الأوروبية) وتم التوجه إلى إقليم العاصمة والوطن القبلي والساحل بدعوى توفر المواني والمرافئ وقربها من أوروبا وتم بناء هيكلا صناعيا أعرج وبعده عن مصادر الإنتاج الفلاحي خاصة والمواد الإنشائية وبالتالي أصبح غير قادر على ضمان قدرة تنافسية تضمن دخوله إلى السوق الأوروبية، إضافة إلى معاناته من الشروط المجحفة والتقلبات السياسية وعدم القدرة على منافسة إنتاجا أوروبا مدعما.
ورغم أن السوق الجزائرية والإفريقية كانت تمثل خيارا استراتيجيا لتنويع وجهة صادراتنا، فان الخيارات الوطنية قد حكمت على جهة جندوبة وإقليم الشمال الغربي بالجمود الصناعي والاقتصادي. لقد اختارت الدولة التونسية منذ الستينات، تركيز كل جهدها التنموي في إقليم العاصمة والشريط الساحلي، ووجهت كل مواردها المالية لبناء نسيج صناعي متنوع في المناطق المذكورة مع توفير البنية التحتية الحديثة والكفيلة بتوفير مناخ اقتصادي واجتماعي يساعد على تطور قطاع الصناعة واعتبرت الجهات الداخلية جهات غير ذات قيمة اقتصادية.
وبالفعل فقد تم إقرار مبدأ الاستثمار وبقوة منذ العشرية 1962 -1971 في مجال الصناعات (الصناعات الالكترونية – الميكانيكية – صناعة اللوح –والبلور والبتروكيميائية ومواد البناء …..) وكذلك الصناعات التحويلية (مطاحن حبوب – مصانع تجفيف … – مصانع حليب ومشتقاته – طماطم …. حيث تم تخصيص استثمارات جملية على امتداد الستينات غير أن هذه الاستثمارات شملت إقليمي العاصمة والساحل،وكرست فكرة مناطق إنتاج (الشمال الغربي) ومناطق تحويل وتصنيع.
وقد استتبع انجاز هذه الصناعات التي مولتها الدولة التونسية عبر عديد المؤسسات العمومية التي تم إنشائها للغرض ( أكثر من 300 مؤسسة عمومية 90 % منها ارتكزت بالعاصمة والشريط الساحلي) استتبع هذا الجهد الضخم توفير تمويلات هامة لتوفير البنية التحتية (طرق سيارة – طرقات مهيكلة – معابر – مطارات – موانئ – نزل – تنوير عمومي …… ) والتجهيزات اللازمة لإنجاح المشروع .
وللتوضيح نشير إلى أن مجمل مساحة المناطق الصناعية بالشمال الغربي (حوالي 270 هكتار) لا تمثل سوى 1 % من مساحة المناطق الصناعية وطنيا إلى غاية 2008.
وقد توجهت الدولة منذ 1988 ومن خلال مجلة الاستثمارات الصناعية التي تم تنقيحها سنة 1994 إلى دعم الاستثمار الصناعي بجهات الداخل من خلال اعتبارها جهات ذات أولوية، غير أن غياب الطريق السيارة والطرقات الحديثة وكل عناصر البنية التحتية الضرورية بالمدن والتي تشجع على العمل بهذه الجهة كانت غائبة تماما لتبقى مجلة الاستثمار الصناعي حبر على ورق. بل أكثر من ذلك فان الإدارة المركزية لم تسعى إلى المحافظة على ما وقع إنجازه بالجهة ،ولنا في معمل السكر الذي أنجز في ولاية جندوبة على قاعدة دراسات علمية وبكلفة هامة مثالا حيث ساهم هذا المشروع في توفير أكثر من 600 موطن شغل مباشر وتوفير دخل جديد لفلاحي الجهة، ثم تفاجأ الأهالي بخطاب جديد اجتاح وسائل الإعلام مفاده أولا أن اللفت السكري سيضر بأديم الأرض وسيتسبب في خسارة الفلاحين وثانيا إن كلفة الإنتاج عالية وأنهم يحبذون استيراد مادة السكر على إنتاجها بجندوبة وقد تم في الأخير إعلان إفلاس هذا المعمل وغلقه، ثم عادت نفس الأطراف للحديث عن جدوى هذا المشروع وعن ضرورة إعادة تشغيله ولكن بعد تخصيصه، كما أصبح اللفت السكري فجأة نبتة مفيدة للتداول الزراعي وتوفر مادة علفية غنية للحيوانات.
ولا نرى مستقبلا للصناعة بجندوبة التي تتوفر على مقدرات هامة مثل: المواد إنشائية التي أنجزت في شأنها دراسات علمية وتنفيذية و مواد فلاحية مثل اللحوم الحمراء / ألبان / خضر / غلال / حبوب / سمك: (20 ألف طن إمكانيات إنتاج ومواد غابية مثل خشب 47 ألف م2 – خفاف: 60 ألف قنطار(90 % من الإنتاج الوطني) – فقاع : 63 طن – زيت ريحان: 3500 كغ إضافة إلى عدة مواد أخرى غير محصاة،لا يمكن استغلال كل هذه الثروات إلا عبر بناء استراتيجية دقيقة .
ولأجل تصور رؤية جديدة لتنمية القطاع الفلاحي لابد من التوقف عند جملة من الاستنتاجات التي استخلصناها من الدراسة والتجربة الميدانية .
6. استراتيجية التنمية الفلاحية وشروط تحققها:
وتهدف هذه الإستراتيجية إلى مواجهة العراقيل والمعيقات التي تواجه القطاع الفلاحي والتي يمكن تلخيصها في :
– إنتاجية ضعيفة تعود أساسا إلى تدهور قيمة العمل وغياب إرادة التجديد في التقنيات والأساليب المعتمدة في الأنشطة الفلاحية .
– استثماروطني ضعيف (10 % فقط) مع رفض القطاع البنكي للانخراط في الاستثمار الفلاحي.
– تشتت للأراضي الفلاحية وغياب وثائق الملكية العقارية التي تضمن عمليات الإقتراض.
– ضعف التنظيم المهني مع سوء إدارة الضيعات الفلاحية وتأطير وإرشاد الفلاحين
– غياب رؤية إستراتيجية واضحة لمنظومات الإنتاج.
– غياب مسالك توزيع مقننة ومراقبة ومربحة.
– غياب لهياكل مراقبة وآليات توزيع وترويج يضمن للمنتج هامش ربح مقبول.
– ارتفاع نسبة الشّيخوخة (40% تجاوزوا سنّ الستّين عاما) ونسبة الأمية (46% لا يجيدون القراءة والكتابة) في أوساط الفلاحين.
– ارتفاع أسعار الأسمدة الكيميائية والأدوية والبذور والمشاتل والمحروقات.
– تفاقم مديونية صغار الفلاحين.
ويضاف إلى هذه العوائق معطى جديد وهو تصنيف تونس دولة ذات شح مائي، بمناسبة اليوم العالمي للمياه، 22 ماي 2018، تم الإعلان على أن تونس لديها 450 متر مكعب فقط للفرد من المياه سنوياً، منها 81٪ تستهلكها الزراعة، وبالتالي، فقد تجاوزت تونس حد الإجهاد المائي البالغ 500 م3/ سنة. فعلى أساس هذه الملاحظة يخلص على سبيل المثال من أهمية الاستخدام الأمثل للمياه الري. وقد كانت التوصية العامة، على أن الماء ممكن أن يكون عامل يحد ويعيق التنمية الفلاحية في تونس. وبذلك يجب الحفاظ عليها وتثمينها، على أن القطاع الزراعي يجب أن يعطي مثالاً للاستخدام الأمثل للمياه لأغراض الري. في هذا الصدد، فإن اقتصاد المياه هو الحل الأنسب للرفع من تعبئة المياه. هذا الاستنتاج يأتي في نطاق ترشيد الاستهلاك لجميع الموارد الزراعة، وخاصة الطاقة.
ولقد لوحظ اختلاف في أوجه النظر بالنسبة للرؤية المستقبلية لموضوع التنمية في القطاع الفلاحي في تونس، حيث هناك شق من الخبراء الذين أعلنوا بالفعل عن انهيار لمنظومات القطاع الفلاحي. أما الشق الآخر فهم يرون أن المشاكل في القطاع الفلاحي معروفة ويمكننا دائما المضي قدما على طريق الإصلاح، ومن الواضح انه لم يعد من الممكن البحث عن الحلول انطلاق من التصحيحات لما هو موجود. وفي رأينا،إنه من الملح العمل على بناء رؤية كاملة تعالج المشاكل مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل المتغيرات وجذور المشكلات الناجمة عن غياب المعرفة أو السيطرة على العوامل الطبيعية أو البشرية ،وهو ما أدى إلى ضعف إنتاجية هذا القطاع .
7. رؤية جديدة لفلاحة المستقبل:
تتمحور هذه الرؤية الطموحة حول مقاربة شمولية وإدماجية لكل الفاعلين بمختلف أصنافهم في القطاع الفلاحي. وترتكز أساسا على إستراتيجية جديدة لفلاحة المستقبل وهي رؤية لتطوير القطاع. حيث تعتمد أولا على تأهيل الضيعة الفلاحية والنهوض بالقائمين على استغلالها وثانيا على معالجة العوامل المناخية الجافة وتأثيراتها على الإنتاج والإنتاجية. وتعتمد هذه الرؤية أساسا على مقاربتين يمكن تفصيلهما كالآتي:
- مقاربة أولى تعتمد على تنمية فلاحية متكاملة تستجيب لمتطلبات السوق وذلك من خلال انخراط القطاع الخاص في استثمارات جديدة،وفلاحة عصرية تنافسية ذات إنتاجية وقيمة مضافة عالية في المناطق ذات المؤهلات الفلاحية المهمة (سهول ومناطق سقوية…الخ ). وتعتمد هذه المقاربة على بعد تكنولوجي يمكننا من التصرف المحكم في العنصرين الأساسين للإنتاج الفلاحة وهما “الموارد المائية ومنظومة الإنتاج النباتي والحيواني”.
- مقاربة ثانية ذات بعد اقتصادي اجتماعي ترمي بالأساس إلى محاربة الفقر والبطالة في الوسط الريفي عبر تحسين دخل الفلاحين الصغار. ففي تونس هناك ما يقارب نصف مليون فلاح، 56 % منهم يملكون اقل من 5 هكتارات من بينهم 85 % يملكون اقل من هكتار واحد. هذه المقاربة تهم الفلاحة في المناطق الجبلية والريفية، وترمي هذه الرؤية في جانبها الاجتماعي أساسا إلى فك عزلة أهالينا في هذه المناطق الوعرة، فعلى سبيل المثال نجد 46% من سكان ولاية جندوبة ( 402 ألف نسمة) يقطنون في أفقر أربعة معتمديات (وادي مليز: 18.5 ألف ساكن ، فرنانة :53 ألف ساكن، غار الدماء :71 ألف ساكن وعين دراهم : 39 ألف ساكن ) من بينهم ما يقارب %50 يقطنون في الأرياف والمناطق الجبلية.
وقد أثبتت البحوث الحديثة أن الإكتضاض السكاني في المناطق الريفية لا يساعد على التنمية في جميع الميادين وخاصة القطاع الفلاحي، حيث أكدت السياسات الفلاحية التي طبقت في الاتحاد الأوروبي أن التقليص في عدد السكان يساعد على المحافظة على النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمناطق الريفية.
ومن أجل مواجهة هذه المعوقات تم وضع هذه الإستراتيجية بهدف تطوير القطاع الفلاحي و تحقيق الأمن الغذائي وضمان القدرة التنافسية للقطاع، خاصة في ظل احتداد المنافسة العالمية الغير عادلة وتوجه الدولة نحو الاندماج في السوق الأوروبية.
وتعتمد هذه الإستراتيجية على فكرة الاستثمار والتنظيم كمعادلة للنجاح وتتمحور حول:
– جعل الفلاحة قاطرة للتنمية بتونس خلال 15 سنة القادمة.
– وتبني التجميع كنموذج للتنظيم القطاع الفلاحي (بعث تعاونيات فلاحية مع مسالك تمويل واضحة وبقروض بنكية تفاضلية)
– مع ضمان استدامة الفلاحة التونسية.
وتأكد كذالك هذه الرؤية على ضرورة اعتماد الخارطة الفلاحية التي تم إنجازها من طرف وزارة الفلاحة والصيد البحري والتي صنفت الأراضي الصالحة للزراعة حسب خصوصيات التربة والمناخ بكل منطقة في الجمهورية، حيث أُقر لأول مرة في جهة جندوبة ضمن وثيقة رسمية إمكانية غراسة القوارص وقد أثبت التجربة في العشرية الأخيرة صحة هذا.
وتعتمد هذه الإستراتيجية كذلك على ربط الفلاحة بالبحث العلمي وبالتقنيات الجديدة التي ستمكننا من التقليل من كلفة الإنتاج والرفع في هامش الربح أخذا بعين الاعتبار خصوصيات إقليم الشمال الغربي المناخية وطبيعة التربة وسوسيولوجية السكان،علما أن البنك الدولي يؤكد في مجمل تقاريره الفنية في السنوات الأخيرة على أهمية أخذ هذا البعد بعين الاعتبار ويدعو مكاتب الدراسات التونسية إلى تشريك علماء الاجتماع في إعداد الدراسات الاقتصادية والمشاركة كذلك في عمليات تقييم المشاريع والبرامج المنجزة ، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت هناك إرادة سياسية للاستثمار في مجال المعرفة، أي في البحث والتطوير والابتكار التكنولوجي.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن نصيب الناتج المحلي الإجمالي المخصص للبحث والتطوير في تونس يبلغ 0.6٪ فقط، مقارنة بالإتحاد الأوروبي (2.3٪) والولايات المتحدة الأمريكية (2.7%) والصين (2.0%)، و هذا ما يؤكد مدى العمل الذي لا يزال يتعين القيام به في هذا المجال بالنسبة لتونس لتحويل هذه التوقعات إلى إنجازات. وعلينا نحن المهندسين والباحثين في القطاع الزراعي مراجعة أساسيات الزراعة في المناطق القاحلة والشبه القاحلة و إعادة النظر في أسلوب الري وإدارة الموارد المائية أخذا بعين الاعتبار الخصوصيات المناخية لكل منطقة.
8. الخلاصة :
نستخلص مما سبق أنه أصبح يتعين على الجميع إعادة النظر في السياسات والبرامج في القطاع الفلاحي وإعطاء البحث العلمي الأهمية اللازمة و الاستفادة منه و تثمين نتائجه كما يتعين تشجيع الاستثمار البنكي في القطاع والدفع نحو التخلي عن ثقافة المستغلات الفلاحية الصغرى والعائلية التي تتميز بالتشتت وقلة المردودية وترسيخ ثقافة العمل المشترك. كما يتعين إعادة النظر في المنظومات الفلاحية وتنظيم مسالك التوزيع والإنتاج وإخضاعها للرقابة لضمان حوكمة رشيدة وشفافية في التعامل المالي والإداري قصد ضمان مردودوية عالية لفائدة الفلاحين والدولة ونوعية جيدة وتنافسية للإنتاج الوطني.
9. المراجع :
1- وكالة النهوض بالإستثمارات الفلاحية. 2017. www.apia.com.tn
2- ديوان تنمية الشمال الغربي .2017. www.odno.nat.tn
3- ديوان تنمية الغابات والمراعي بالشمال الغربي. 2016. www.odesypano.agrinet.tn
4- المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بجندوبة.2016. http://www.cgdr.nat.tn
5- الإحصاء الرسمي بتونس. 2014 . المعهد الوطني للإحصاء. www.ins.tn
6- الإقتصاد التونسي مند الإستقلال. 1969. دليل شمال إفريقيا aan.mmsh.univ-aix.fr
7- د. شكرى التيساوي. اللامركزية والتنمية الجهوية ،دراسة حالة ولاية جندوبة، ،2017 .
8- علي مهيري. 2018. الفلاحة التونسية في مفترق الطرق. كتاب طباعة شركة بوجبل تونس 280 صفحة.
9- خطاب السيد الهادى نويرة الوزير الأول للجمهورية التونسية أمام مجلس النواب 1964.
10- محمد عيادي. 2005. النمو المؤيد للفقراء في تونس ، استراتيجيات التنمية الدولية.