كنا عرضنا في المقالة الأولى السياسات الوطنية التي تم إتباعها وحاولنا عرض بعض الانعكاسات لهذه السياسات على القطاع الفلاحي الذي كان يعتبر كما ذكرنا قطاعا استراتيجيا حيث انه يساهم بقرابة 9% من إجمالي الناتج المحلي ويشغل ما يقارب 18% من السكان الناشطين. وقد كان هذا القطاع يساهم بـ 24 % من الناتج الوطني الخام ويشغل حوالي5 4% من اليد العاملة في تونس في سنوات الستينات والسبعين من القرن الماضي. وحيث كان هذا القطاع ولازال يمثل ركيزة هامة في الاقتصاد التونسي فإن التساؤل عن أسباب تراجع هذا القطاع الهام تبقى ملحة ؟ وللإجابة عن هذا السؤال أخذنا ولاية جندوبة وإقليم الشمال الغربي مثالا،و وبعد التعرض إلى هذه السياسات في المقالة الأولى نحاول طرح تصور آخر لتنظيم هذا القطاع يعتمد على فكرة الاستثمار والتنظيم كمعادلة للنجاح وتتمحور حول: جعل الفلاحة قاطرة للتنمية بتونس خلال 15 سنة القادمة، وتتبنى التجميع كنموذج للتنظيم القطاع الفلاحي ، مع ضمان استدامة الفلاحة التونسية. وتعتمد هذه الإستراتيجية كذلك على ربط الفلاحة بالبحث العلمي وبالتقنيات الجديدة التي ستمكننا من التقليل من كلفة الإنتاج والرفع في هامش الربح أخذا بعين الاعتبار خصوصيات إقليم الشمال الغربي المناخية وطبيعة التربة وسوسيولوجية السكان.
و حيث يعتبر القطاع الفلاحي قطاعا استراتيجيا بالنظر إلى أهميته على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي حيث أنه يشغل ما يقارب 18% من السكان الناشطين بالإضافة إلى فرص عمل موسمية هامة. وبالتالي فهو ذو أهمية اجتماعية حيث يضمن دخل دائم لما يقارب نصف مليون فلاح. وتمثل الاستثمارات الخاصّة 57% من الاستثمارات الفلاحية بينما تمثّل الصادرات الفلاحيّة ما بين 10 إلى 17% من مجمل الصادرات التونسية
استراتيجية التنمية الفلاحية وشروط تحققها
تهدف هذه الإستراتيجية إلى مواجهة العراقيل والمعيقات التي تواجه القطاع الفلاحي والتي يمكن تلخيصها في :
– إنتاجية ضعيفة تعود أساسا إلى تدهور قيمة العمل وغياب إرادة التجديد في التقنيات والأساليب المعتمدة في الأنشطة الفلاحية .
– استثمار وطني ضعيف (10 % فقط) مع رفض القطاع البنكي للانخراط في الاستثمار الفلاحي.
– تشتت للأراضي الفلاحية وغياب وثائق الملكية العقارية التي تضمن عمليات الاقتراض.
– ضعف التنظيم المهني مع سوء إدارة الضيعات الفلاحية وتأطير وإرشاد الفلاحين
– غياب رؤية إستراتيجية واضحة لمنظومات الإنتاج.
– غياب مسالك توزيع مقننة ومراقبة ومربحة.
– غياب لهياكل مراقبة وآليات توزيع وترويج يضمن للمنتج هامش ربح مقبول.
– ارتفاع نسبة الشّيخوخة (40% تجاوزوا سنّ الستّين عاما) ونسبة الأمية (46% لا يجيدون القراءة والكتابة) في أوساط الفلاحين.
– ارتفاع أسعار الأسمدة الكيميائية والأدوية والبذور والمشاتل والمحروقات.
– تفاقم مديونية صغار الفلاحين.
ويضاف إلى هذه العوائق معطى جديد وهو تصنيف تونس دولة ذات شح مائي، بمناسبة اليوم العالمي للمياه، 22 ماي 2018، حيث تم الإعلان على أن تونس لديها 450 متر مكعب فقط من المياه سنوياً، منها 81٪ تستهلكها الزراعة، وبالتالي، فقد تجاوزت تونس حد الإجهاد المائي البالغ 500 م3/ سنة. فعلى أساس هذه الملاحظة نخلص على سبيل المثال إلى أهمية الاستخدام الأمثل لمياه الري. وقد كانت التوصية العامة، على أن الماء ممكن أن يكون عامل يحد ويعيق التنمية الفلاحية في تونس. وبذلك يجب الحفاظ عليه وتثمينه، وعلى القطاع الزراعي أن يعطي مثالاً للاستخدام الأمثل للمياه لأغراض الري. ونرى أن اقتصاد المياه هو الحل الأنسب للرفع من تعبئة المياه.
ولقد لوحظ اختلاف في أوجه النظر بالنسبة للرؤية المستقبلية لموضوع التنمية في القطاع الفلاحي في تونس، حيث هناك شق من الخبراء الذين أعلنوا بالفعل عن انهيار لمنظومات القطاع الفلاحي. أما الشق الآخر فهم يرون أن المشاكل في القطاع الفلاحي معروفة ويمكننا دائما المضي قدما على طريق الإصلاح، ومن الواضح انه لم يعد من الممكن البحث عن الحلول انطلاقا من الإصلاحات الجزئية. وفي رأينا،إنه من الملح العمل على بناء رؤية كاملة تعالج المشاكل مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل المتغيرات وجذور المشكلات الناجمة عن غياب المعرفة أو السيطرة على العوامل الطبيعية أو البشرية وهو ما أدى إلى ضعف إنتاجية هذا القطاع .
رؤية جديدة لفلاحة المستقبل
تتمحور هذه الرؤية الطموحة حول مقاربة شمولية وإدماجية لكل الفاعلين بمختلف أصنافهم في القطاع الفلاحي. وترتكز أساسا على إستراتيجية جديدة لفلاحة المستقبل وهي رؤية لتطوير القطاع. حيث تعتمد أولا على تأهيل الضيعة الفلاحية والنهوض بالقائمين على استغلالها وثانيا على معالجة العوامل المناخية الجافة وتأثيراتها على الإنتاج والإنتاجية. وتعتمد هذه الرؤية أساسا على مقاربتين يمكن تفصيلهما كالآتي:
مقاربة أولى تعتمد على تنمية فلاحية متكاملة تستجيب لمتطلبات السوق وذلك من خلال انخراط القطاع الخاص في استثمارات جديدة،وفلاحة عصرية تنافسية ذات إنتاجية وقيمة مضافة عالية في المناطق ذات المؤهلات الفلاحية المهمة (سهول ومناطق سقوية…الخ ). وتعتمد هذه المقاربة على بعد تكنولوجي يمكننا من التصرف المحكم في العنصرين الأساسين للإنتاج الفلاحة وهما “الموارد المائية ومنظومة الإنتاج النباتي والحيواني” وإدخال تقنيات التخزين والتحويل على عين المكان ربحا للوقت والطاقة ما من شانه أن يخفض في كلفة الإنتاج ويرفع من حجم القيمة المضافة للقطاع.
مقاربة ثانية ذات بعد اقتصادي اجتماعي ترمي بالأساس إلى محاربة الفقر والبطالة في الوسط الريفي عبر تحسين دخل الفلاحين الصغار. ففي تونس هناك ما يقارب نصف مليون فلاح، 56 % منهم يملكون اقل من 5 هكتارات من بينهم 85 % يملكون اقل من هكتار واحد. هذه المقاربة تهتم كذلك بالفلاحة في المناطق الجبلية والريفية، وترمي هذه الرؤية في جانبها الاجتماعي أساسا إلى فك عزلة أهالينا في هذه المناطق الوعرة، فعلى سبيل المثال نجد 46% من سكان ولاية جندوبة ( 402 ألف نسمة) يقطنون في أفقر أربعة معتمديات (وادي مليز: 18.5 ألف ساكن ، فرنانة :53 ألف ساكن، غار الدماء :71 ألف ساكن وعين دراهم : 39 ألف ساكن ) من بينهم ما يقارب %50 يقطنون في الأرياف والمناطق الجبلية.
والمطلوب مستقبلا أن تكون هناك سياسة وطنية مؤمنة بأهمية القطاع في ضمان الاكتفاء الذاتي الغذائي أولا ثم العمل تطوير إمكانيات هذا القطاع والتحول للتصدير كرافد هام من روافد دعم الميزان التجاري وخلق آلاف مواطن الشغل القارة علما أنه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف إذا أصر القطاع المالي على الإحجام على الاستثمار في القطاع الفلاحين عملا بمقولات ثبت تخلفها اليوم وبعدها عن الواقع الموضوعي في تونس وفي غبرها من الدول.
ويمكن التأكيد اليوم أن الرأي القائل أن الاقتصاد الوطني يبنى على الصناعة والخدمات والسياحة فقط ،قد أثبت محدوديته وعلى القطاع البنكي أن يراجع سياساته ويشرع في بناء علاقة جديدة مع القطاع الفلاحي تبنى على مبدأ الربح المشترك.
ومن أجل مواجهة هذه المعوقات تم وضع هذه الإستراتيجية بهدف تطوير القطاع الفلاحي و تحقيق الأمن الغذائي وضمان القدرة التنافسية للقطاع، خاصة في ظل احتداد المنافسة العالمية الغير عادلة وتوجه الدولة نحو الاندماج في السوق العالمية مع التركيز على الأسواق الإفريقية والآسيوية .
وتعتمد هذه الإستراتيجية على فكرة الاستثمار والتنظيم كمعادلة للنجاح التي تتمحور حول:
– جعل الفلاحة والصناعلت التحويلية قاطرة للتنمية بتونس خلال 15 سنة القادمة ويجب أن يتحول هذا الهدف إلى خطة وطنية ذات أولوية تحضى بدعم كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.
– تبنّي التجميع كنموذج للتنظيم القطاع الفلاحي (بعث تعاونيات فلاحية مع مسالك تمويل واضحة وبقروض بنكية تفاضلية) ويبنى مبدأ التجميع على مبادئ اقتصادية وتقنية عصرية تهتم بتطوير البنية التحتية الفلاحية وعمليات الصيانة والخدمات لفائدة الضيعات ودعم عمليات التخزين بمعايير علمية متطورة إضافة إلى تطوير وتنويع عمليات التحويل الصناعي بأماكن الإنتاج.
– ضمان استدامة الفلاحة التونسية من خلال استثمار وزارة الفلاحة والجامعات في عمليات البحث وتطوير الأنشطة الفلاحية حتى تتلاءم مع التغيرات المناخية المستقبلية والتركيز على نشر ثقافة التداول الزراعي والعمل على إدخال زراعات ذات قيمة عالية وعليها طلب عالمي كبير مع ثبوت قدرة التربة في تونس على إنتاج العديد من هذه الزراعات وهو ما يسمح بعملية تداول زراعي منتج ومربح ويشجع الفلاح في الشمال الغربي خاصة على تبني هذه الخطة .
وتأكد هذه الرؤية على ضرورة اعتماد الخارطة الفلاحية التي تم إنجازها من طرف وزارة الفلاحة والصيد البحري والتي صنفت الأراضي الصالحة للزراعة حسب خصوصيات التربة والمناخ بكل منطقة في الجمهورية، حيث أُقر لأول مرة في جهة جندوبة ضمن وثيقة رسمية إمكانية غراسة القوارص وقد أثبتت التجربة في العشرية الأخيرة صحة هذا.
وتعتمد هذه الإستراتيجية كذلك على ربط الفلاحة بالبحث العلمي وبالتقنيات الجديدة التي ستمكننا من التقليل من كلفة الإنتاج والرفع في هامش الربح أخذا بعين الاعتبار خصوصيات إقليم الشمال الغربي المناخية وطبيعة التربة وسوسيولوجية السكان،علما أن البنك الدولي يؤكد في مجمل تقاريره الفنية في السنوات الأخيرة على أهمية أخذ هذا البعد بعين الاعتبار ويدعو مكاتب الدراسات التونسية إلى تشريك علماء الاجتماع في إعداد الدراسات الاقتصادية والمشاركة كذلك في عمليات تقييم المشاريع والبرامج المنجزة ، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت هناك إرادة سياسية للاستثمار في مجال المعرفة، أي في البحث والتطوير والابتكار التكنولوجي.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن نصيب الناتج المحلي الإجمالي المخصص للبحث والتطوير في تونس يبلغ 0.6٪ فقط، بينما تصل هذه النسبة بالإتحاد الأوروبي (2.3٪) والولايات المتحدة الأمريكية (2.7%) والصين (2.0%)، بالرغم من تحول اهتمام هذه الأقطاب الإقتصادية إلى الصناعات التكنولوجية والإستثمار في اقتصاد المعرفة، و هذا يؤكد مدى بعدنا عن العمل الذي لا يزال يتعين علينا القيام به في هذا المجال بالنسبة لتونس لتحويل هذه التوقعات إلى إنجازات. وعلى المهندسين والباحثين في القطاع الزراعي مراجعة أساسيات الزراعة في المناطق القاحلة والشبه القاحلة و إعادة النظر في أسلوب الري وإدارة الموارد المائية أخذا بعين الاعتبار الخصوصيات المناخية لكل منطقة.
الخلاصة
نستخلص مما سبق أنه أصبح يتعين على الجميع إعادة النظر في السياسات والبرامج في القطاع الفلاحي وإعطاء البحث العلمي الأهمية اللازمة و الاستفادة منه و تثمين نتائجه كما يتعين تشجيع الاستثمار البنكي في القطاع والدفع نحو التخلي عن ثقافة المستغلات الفلاحية الصغرى والعائلية التي تتميز بالتشتت وقلة المردودية وترسيخ ثقافة العمل المشترك. كما يتعين إعادة النظر في المنظومات الفلاحية وتنظيم مسالك التوزيع والإنتاج وإخضاعها للرقابة لضمان حوكمة رشيدة وشفافية في التعامل المالي والإداري قصد ضمان مردودوية عالية لفائدة الفلاحين والدولة ونوعية جيدة وتنافسية للإنتاج الوطني.
المراجع
1- وكالة النهوض بالإستثمارات الفلاحية. 2017. www.apia.com.tn
2- ديوان تنمية الشمال الغربي .2017. www.odno.nat.tn
3- ديوان تنمية الغابات والمراعي بالشمال الغربي. 2016. www.odesypano.agrinet.tn
4- المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بجندوبة.2016. http://www.cgdr.nat.tn
5- الإحصاء الرسمي بتونس. 2014 . المعهد الوطني للإحصاء. www.ins.tn
6- الاقتصاد التونسي مند الاستقلال. 1969. دليل شمال إفريقيا aan.mmsh.univ-aix.fr
7- شكرى التيساوي. 2017. أللامركزية والتنمية الجهوية ،دراسة حالة ولاية جندوبة، أطروحة دكتوراه كلية 9 أفريل للعلوم الإنسانية والاجتماعية،جامعة تونس الأولى،جويلية،2017 .
8- علي مهيري. 2018. الفلاحة التونسية في مفترق الطرق. كتاب طباعة شركة بوجبل تونس 280 صفحة.
9- خطاب السيد الهادى نويرة الوزير الأول للجمهورية التونسية أمام مجلس النواب 1964.
د. شـكري التيساوي و د. معز العيادي.