تتطرق هذه الدراسة لظاهرة منظمات المجتمع المدني في تونس والعالم من خلال توضيح الإطار المفاهيمي والتاريخي لظهورها ورسم صورة مقتضبة عن نشأتها في العالم والوطن العربي وطبيعة الأدوار التي لعبتها منذ ثلاثين سنة الأخيرة، ثم تحاول الدراسة تشخيص ظاهرة الانتشار السريع للجمعيات بمختلف تسمياتها في تونس في العشرية الأخيرة وللخلفيات الفكرية والسياسية ذات البعد الدولي والإقليمي لظهورها .
الإطار المفاهيمي.
تنوعت المفاهيم المرتبطة بالتنظيمات المدنية في القرن الأخير إذ صرنا نستمع إلى مصطلحات مثل الجمعيات و الجمعيات الأهلية و المنظمات الغير حكومية والمنظمات الدولية والمؤسسات (FONDATIONS)… والسؤال هل أن تعدد المصطلحات يعني اختلافا جوهريا في الأهداف والوظائف والأشكال أم لا ، وما هي التحولات الاجتماعية التي رافقت هذه الظواهر،وما علاقة ما يحدث في تونس من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وطنية وإقليمية ودولية بالتطور السريع والمكثف للمنظمات والجمعيات ؟
وأمام تطور دور المنظمات والجمعيات في اتجاه احتلال موقع متقدم على الساحات الوطنية والدولية، لا بدّ من البحث في علاقة هذه المكونات بالدولة الوطنية وبالمجتمع والخلفيات الفكرية التي تحكم تعامل هذه الكيانات مع الهوية الثقافية لمجتمعاتها ومع المشكلات والحاجات المتنوعة لهذه المجتمعات،وهل أن مكونات المجتمع المدني قادرة فعلا على الفهم والتفاعل الإيجابي مع واقع مجتمعاتها أم أن الغاية من كل الأنشطة التي برزت وتكاثفت في السنوات الأخيرة هي حالة التماهي المجتمعي مع المفاهيم التي تروج لها هذه الجمعيات والمنظمات وصولا إلى استبطان جماعي لمجموعة القيم والتصورات الجديدة .
وقبل محاولة الإجابة عن جملة الأسئلة المطروحة، لا بدّ لنا أن نعلم أن الوضع القانوني للجمعيات والمنظمات منظم بجملة من القوانين الوطنية و الدولية التي تحمي حرية هذه المؤسسات من حيث التكوين والتمويل والنشاط،وبالتالي فإن التفكير في مستقبل هذه الظاهرة لابد أن يأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار حتى نقتصد الوقت والجهد عند التفكير في إعادة النظر في علاقتنا بهذه الظاهرة بحيث نظمن استمرارية عمل هذه المؤسسات، مع احترام المناخ الثقافي والمزاج الداخلي لمجتمعاتنا.
البعد التاريخي
ظهرت المنظمات الغير حكومية ((ONG بشكل رسمي ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1945 حيث يؤكد الفصل 71 من ميثاق المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة أنه يمكن اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لاستشارة المنظمات الغير حكومية الدولية( ONG) والوطنية حسب اختصاصها، وقد سمح هذا القانون للمنظمات الغير حكومية بلعب دور مؤثر في أروقة الأمم المتحدة وخارجها كما يؤكده الباحث الفرنسي decaux Emmanuel أستاذ بجامعة باريس2.
وقد تطور وضع الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بحيث أصبح حقها في العمل والتعبير عن آراءها حقا دوليا، متفق عليه بإجماع كل الدول والمؤسسات العالمية، إذ تقول الباحثة مرفت رشماوي في كتابها “حرية تكوين الجمعيات في البلدان العربية ،دليل إرشادي” أن مجلس حقوق الإنسان يؤكد “على أنه لكل فرد الحق في حرية التجمع السلمي وفي تكوين جمعيات …والتمتع بكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية …والمشاركة في الأعمال الأدبية والفنية ” كما يؤكد المجلس على أنه”من حق المجتمع المدني الحصول على التمويل وغيره من الموارد من المصادر المحلية والدولية وهذا جزء لا يتجزأ من حرية تكوين الجمعيات “وحتى نتمكن من ممارسة حقنا الطبيعي في طرح الأسئلة الضرورية حول تطور هذه الظاهرة وعلاقتها بما يطرحه واقعنا المجتمعي من إشكاليات، لابد أن نتفق على أن الأفعال الاجتماعية والقيم التي تؤثر في مسار هذه الأفعال ،هي في النهاية إجابة مُجتمعية للمشكلات التي يطرحها الواقع، فالأفعال هي أسلوب الإنسان في الاستجابة لتلك المشكلات من خلال تصوره لحلول عاجلة أو آجلة لحل المشاكل اليومية التي تمثـل تحديات مستمرة ومتجددة أمام حق الإنسان في الوجود والتطور فإذا كانت الحلول المقترحة وأساليب تنفيذها خاطئة فإن مآلها الفشل أمام تحديات الواقع المادي .
تلتقي كل الدراسات والنصوص القانونية والأبحاث الأكاديمية على أن مفهوم الجمعية هو وحدة مدنية تتكون من مجموعة أفراد يلتقون حول هدف ذو بعد اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي يرغبون في تحقيقه فينشئون مؤسسة تُدع “جمعية” قصد المبادرة بتحسين وجه من أوجه الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية وليست للجمعية أغراض ربحية ويقع تمويل أنشطتها من المنتمين إليها ومن الدولة والمساهمات الأهلية ، وتتميز الجمعيات باستقلالها عن الدولة وأجهزتها الرسمية و كذلك عن المؤسسات السياسية بكل أشكالها، ويرتكز عملها على تطوع الأفراد الذين يؤسسونها ولابد للجمعية أن تحصل على ترخيص رسمي بالنشاط من الدولة وأن تُعد قانونها الأساسي ونظامها الداخلي وتنشر إعلان تأسيسها بالجريدة الرسمية للدولة.
وقد ظهرت الجمعيات بأشكال ولأغراض متعددة منذ القدم في أوروبا إذ يقول الأستاذ ايمانويال ديكو، وهو أستاذ جامعي بجامعة باريس2، أن العهد اليوناني عرف أنواع من الجمعيات مثل “نواد الأثرياء” و الجمعيات الدينية الخاصة والجمعيات المهنية. وفي بداية الثورة الصناعية ظهرت جمعيات تساعد الدول الغربية على العمل الإداري بشكل تطوعي كما ظهرت جمعيات تنظم العمل الاقتصادي وتؤمن عمليات التحكيم التجاري واحترام العقود بين المتعاملين وقد انتشر هذا النوع من الجمعيات في جل أنحاء أوروبا،و تطورت أشكال الجمعيات في القرن العشرين في أوروبا وتنوعت مجالات اهتمامها وتطورت أساليب عملها مما استوجب تكوين إدارات خاصة بها لتأمين عملها و يؤكد كل من أستاذ الاقتصاد جون فييس والباحثة آن نالو أن تطور المتغيرات الدولية قد أنتج ظهور شكل جديد من الجمعيات التي صارت تتجاوز حدودها الوطنية نحو الكونية من خلال طرح محاور اهتمام جديدة مثل موضوع حقوق الإنسان والمرأة والأقليات الإثنية والفقر والأوبئة وإسعاف المتضررين من الكوارث الطبيعية ،وسيعرف هذا النوع من الجمعيات بالمنظمات الغير حكومية وهي تتميز أساسا باستقلاليتها عن الدول وباهتماماتها الدولية .
أما في الوطن العربي فقد ظهرت الجمعيات منذ وقت مبكر في العهد الإسلامي في شكل جماعات دينية تتبنى نهجا تعبديا مثل الجماعات الصوفية، ويبدو أن ظهور الجمعيات في الوطن العربي قد ارتبط أساسا بالانتماء الأهلي أو الديني ،حيث كانت ظاهرة إلتقاء مجموعة بشرية لمساعدة المحتاجين من أبناء القبيلة أو العشيرة أو الحي هو شكل من أشكال الالتقاء الجمعياتي المرتبط بالتطوع لإنجاز أعمال خيرية، و تتميز المجتمعات العربية الإسلامية بالبعد التضامني في المناسبات الدينية والاجتماعية وغيرها من الأحداث التي تستدعي تعاون المشتركين في المكان أو الانتماء الدموي أو الديني فإن ما ميز الجمعيات هو تواصل فعلها،حيث تحولت تلك الأشكال الظرفية إلى مؤسسات اجتماعية مُهيكلة وممتدة في الزمن .
وقد تطور العمل الجمعياتي في الوطن العربي في القرن العشرين وارتبط تطوره بالمتغيرات التي ميّزت بداية القرن السابق حيث كان الاستعمار المباشر قائما، وقد أثر هذا الواقع في طبيعة الفعل الاجتماعي لدى الشعوب العربية التي كانت تصارع من أجل تحررها ،وقد ظهرت عدة منظمات وأحزاب وحركات تحمل في أغلبها الطابع التحرري والاجتماعي إضافة إلى الاهتمام بالتعليم و حفظ القرآن و المساعدات الاجتماعية والصحية بكل أشكالها .
تقول الباحثة سارة بن نفيسة أن نهاية القرن التاسع عشر عرف بروز عديد الجمعيات بالوطن العربي التي اهتمت خاصة بالجانب الصحي والتعليمي ،إذ ساهمت في بناء الوحدات الصحية الريفية والمستشفيات والمدارس التعليمية وتوفير حصص تعليمية تكميلية وفي مجال التكوين المهني ، إضافة إلى الاهتمام بالأيتام وكبار السن والمعاقين والفقراء …
و لا يزال العديد من تلك الجمعيات يواصل هذا العمل حيث تمثل نسبة هذه الجمعيات 30 إلى 50 % في كل من مصر ولبنان وسورية والأردن خاصة، وتقول أن أغلب الجمعيات بالمشرق العربي تعتمد أساسا على البعد الديني أو القبلي بينما تقل هذه النزعة في بلدان المغرب العربي ،ففي مصر مثلا تهيمن الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني منذ السبعينات على الفضاءات الريفية والحضرية حيث تضم “الجمعية الشرعية للسنة المحمدية” التي أسست سنة 1913 م.، ثلاث مائة وسبع وأربعين فرعا و أربع مائة و98 مكتب وستة آلاف مسجد ،وهناك عديد الجمعيات الأخرى في نفس المجال في مصر وفي لبنان وسوريا حيث توجد جمعية الطائفة الكاتوليكية بحلب ومناطق أخرى بسوريا ولبنان، إلى جانب جمعيات إسلامية وكاتوليكية تأسست منذ السنوات الخمسين في البلدان المذكورة وتختص لبنان بوجود 18 طائفة لكل واحدة منها شبكة الجمعيات الخيرية الخاصة بها.
وقد تحولت بعض الجمعيات الخيرية الإسلامية في السودان منذ 1989 ،أي منذ وصول الرئيس عمر البشير، إلى منظمات دولية بنفس الفلسفة و الأهداف التي يتبناها النظام الرسمي في السودان وتدعم دورها بخلق مؤسسات دولية مثل ديوان الزكات والأوقاف الإسلامية في حين تميزت الجمعيات الفلسطينية بارتباطها بالخط التحرري الوطني واصطبغ نشاطها بالاحتياجات اليومية للفلسطينيين في مقاومتهم للاضطهاد الصهيوني .
وقد عرفت كل البلدان العربية موجة جديدة من الجمعيات المهتمة مجالات جديدة تعلقت أساسا بالحقوق والحريات منذ السنوات التسعين وكانت (ولا تزال ) خصوصية هذه “الجمعيات” أنها فروع لمنظمات عالمية مثل رابطات حقوق الإنسان و “هيومن رايتس وتش” و “أمنستي” و المنظمة العالمية ضد التعذيب ومنظمة أوكسفام” الأنقليزية ضد الجوع و منظمة صحافيين بلا حدود ومنظمة الشفافية الدولية والصليب الأحمر والمنظمة العالمية للدفاع عن البيئة ..إضافة إلى ظهور تيار جديد يضم العديد من الجمعيات التي تتبنى نظرية الجندرة.
وقد حملت الفروع العربية لهذه المنظمات الدولية نفس التسميات وتبنت نفس الأهداف المنصوص عليها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبباقي المواثيق والمعاهدات الدولية و النصوص المؤسسة للمنظمات المذكورة.
تقول الباحثة فاطمة الزهراء البرينسي ،وهي باحثة في علم الاجتماع السياسي أن ظاهرة الجمعيات والمنظمات في بداياتها، كانت ردة فعل على الهيمنة الاستعمارية، و شكلت حركة فكرية سعت من خلالها النخب العربية إلى تحديث المجتمعات العربية و تبنت في آن واحد العديد من المفاهيم الغربية مثل المواطنة والحرية وتحرير المرأة وقد ركزت العديد من الجمعيات كما ذكرنا آنفا على البعد التحرري الوطني ،حيث شكلت وعاءا هاما للتعبئة والحشد للشباب المناضل، وقد انخرطت هذه الجمعيات في عملية التحرر الوطني ضمن أطر فكرية ليبرالية أو اشتراكية أو دينية.
و تدعمت ظاهرة تكاثر الجمعيات أو المنظمات في السنوات الثمانين من القرن الماضي عندما تبنى البنك الدولي ومن ثمة كل الوكالات الدولية المرتبطة به لمفاهيم جديدة مثل الحوكمة المحلية والحوكمة الرشيدة ومفهوم اللامركزية والتشاركية بين الأطراف الاقتصادية والاجتماعية الوطنية والبيئة و نظرية النوع الاجتماعي،ولأجل نشر هذه المفاهيم الليبرالية كآليات مجتمعية تهدف إلى الحد من الصراعات الاجتماعية والبحث عن إعادة هيكلة الاقتصاديات الوطنية لتجاوز الأزمات الاقتصادية ،كان لابد من الالتجاء إلى أطراف وسيطة تؤمن هذا الدور من خلال تبني المفاهيم الليبرالية الجديدة التي تعتمد على مفهومين أساسين وهما الديمقراطية وحرية السوق وتعمل هذه الوسائط من خلال نشاطها على الأرض على ترسيخها أي أن الهدف هو بلورة الأهداف في إطار ليبرالي في دولة القانون وبشكل يبتعد عن التصورات السابقة التي كانت ترى في الدولة الفاعل الاقتصادي والسياسي الوحيد في عملية التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية.
تقول الباحثة فاطمة الزهراء البرينسي أن الوكالات الدولية سعت إلى تحفيز الدول العربية على فتح المجال أمام المنظمات والجمعيات لكي تعمل في إطار ما تحدثنا عنه من حرية التجمع والتعبير عن الرأي وتكوين الجمعيات والأحزاب،حيث وصل عدد المنظمات إلى 44 ألف منظمة مسجلة بالمغرب و 38 ألف منظمة في مصر و22 ألف بتونس و10 آلاف بالعراق ،بينما لا تزال أعداد هذه المنظمات ضعيفة بمنطقة الخليج العربي بسبب طبيعة المؤسسات الأوتوقراطية التي تسيطر على المنظومة السياسية والاقتصادية .
وقد أؤكل لهذه المؤسسات مهمة الاهتمام بالشرائح المهمشة مثل المعاقين والأطفال المُتخلى عنهم والمرأة وخاصة المرأة الريفية ،إضافة إلى الاهتمام بمجال الصحة والتعليم والإدماج الاجتماعي وبعث المشاريع الصغرى والتأهيل المهني والقضايا الاجتماعية والحقوقية،وهي كما نرى وظائف كانت حصرا على الدولة ،غير أن استمرارية الأزمات الاقتصادية الليبرالية دفعت الدولة وخاصة الدول الفقيرة إلى معالجة كل هذه الإشكاليات بالمناولة ،أي عبر الجمعيات والمنظمات التي تبحث خارج حدود الدولة عن التمويلات الضرورية لإنجاز مهامها.
وتضيف الباحثة فاطمة الزهراء “أن المنظمات غير الحكومية تعتمد بنسبة كبيرة على التمويل الآتي من الوكالات الدولية للأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي ..عبر الصناديق والمؤسسات التي تُخصصها للمجال الإنساني والتنموي …لكن هذه الجهات المانحة لا تعطي تمويلها بالسهولة التي يتخيلها البعض ..حيث تضع الجهات المانحة شروطا صارمة تشمل كل التفاصيل سواء تعلقت بنشاطات الجهة المُستقبلة للتمويل أو بنوعية هذه النشاطات وميادينها.”
تضطر إذا، المنظمات والجمعيات الوطنية إلى تبني الرؤى والمفاهيم التي تتم صياغتها خارج حدودها الاجتماعية والثقافية ، من قبل بعض الباحثين أو الإداريين في مكاتب الوكالات الدولية دون مراعاة للخصوصيات التاريخية والاجتماعية لمجتمعاتها ،وقد صرنا نلاحظ في هذه الفترة هذا المعطى بشكل علني،حيث أصبحت هذه الوكالات أو المنظمات تنشر إعلانات مناظرات لإنجاز برامج في مختلف المجالات وتضع شروطها في كيفية المشاركة وفي المشاركين(التصريح بتبني كل المفاهيم آنفة الذكر ذات المنحى الليبرالي الغربي،دون إدراك حقيقي لمغزاها وتأثيرها على الواقع الاجتماعي)،وأصبحنا نرى في السنوات الأخيرة تسابق جمعيات في مجالات مختلفة ،للمشاركة في هذه المناظرات،ونشير إلى أن هذه الظاهرة لاتهم الشباب والجمعيات التونسية فقط ،حيث أن المترشحين لهذه البرامج هم من كل أنحاء العالم،ومن المهم أن نوضح أن الشباب المترشحين من البلدان الغربية لا تمثل لهم هذه البرامج أو الشروط التي وضعت لمن يرغب في الحصول على تمويلات عائقا بما أن المفاهيم أو التصورات أو القيم تراعي المناخ الثقافي للمجتمعات التي أنتجتها مجتمعاتهم .
ونلاحظ أن التجارب المقارنة التي اهتمت بنشاط هذه الجمعيات في كل من أمريكا اللاتينية وآسيا الشرقية ودول إفريقيا قد أثبتت فشل العديد من التجارب في هذه المناطق بسبب اكتفاء هذه المنظمات والجمعيات بمعالجة مشاكل التنمية التي أنتجها النظام الرأسمالي بشكل قاصر يستهدف أفرادا أو مجموعات مُصغرة ويقدم حلولا ظرفية لا تصمد أمام تعقيد الواقع الاقتصادي والاجتماعي وكأنها تقدم مضادات حيوية ضعيفة التأثير إلى جسم تنخره أمراض صعبة تتطلب تشخيصا معمقا ومن ثمة توفير علاجات قادرة على الحد من انتشار الأمراض ثم معالجتها بشكل كلي يضمن عودة الحياة إلى الجسم وسلامة كافة أعضائه و ليس الاعتماد على مفاهيم ومناهج عمل قاصرة تساهم في استمرارية الوضع القائم .
وقد تطورت المنظمات على الصعيد الدولي وتنوعت أهدافها ومناهج عملها في الثلاثين سنة الأخيرة و تعاظم تأثيرها على المستوى العالمي مقابل تراجع دور الدولة الوطنية الاقتصادي والاجتماعي وتواترت الأزمات و الحروب الإقليمية في عدة مناطق وصار لكل هذه المؤسسات حضورا وتأثيرا،خاصة بالبلدان الفقيرة أو التي تشهد حروبا حيث يمكن لهذه المنظمات أن تصبح حلول بديلة علاوة على تأثيرها على المؤسسات الدولية ونوعية القرار المتخذ.
لمحة عن التجارب الغربية في مجال العمل الجمعياتي:
كيف يمكن أن ننظر أو نقيم وضع ونشاط الجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة مثلا، حتى نفهم ما يحدث في بلدنا منذ مدة وخاصة منذ 2011؟.
كنا أشرنا في مقدمة البحث أن الجمعيات الخيرية ظهرت وتطورت وظائفها في أوروبا منذ عدة قرون وكانت قد ارتبطت بالمؤسسات الدينية ثم بالحياة المدنية بكل أبعادها التجارية والتعليمية والصحية والثقافية.. وقد حمل المهاجرون من أوروبا إلى الولايات المتحدة معهم هذه الثقافة وأصبحت هذه الجمعيات الخيرية ثم المنظمات تعد من أهم الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين بالولايات المتحدة وقد ساهمت هذه الجمعيات والمنظمات في معالجة الإختلالات الوظيفية لهذا المجتمع الذي يعيش حالة تطور اقتصادي واجتماعي سريعة أنتجت تحولات اجتماعية سريعة وعنيفة في غالب الأحيان وهو ما أنتج اختلالات وظيفية متواترة.
وحيث أن رأس المال المتنامي بسرعة لا يهتم بمعالجة الأمراض الاجتماعية الناتجة في الغالب عن خياراته الاقتصادية المتوحشة فقد كان الالتقاء بين بينه وبين الجمعيات الخيرية والدينية طبيعيا حيث قدم الأخير جزءا هامشيا من أرباحه لهذه الجمعيات التي أمّنت عمليات المعالجة اليومية للمشاكل الاجتماعية مثل الفقر والمخدرات والجريمة وحالات الطلاق والأمراض النفسية والاجتماعية إضافة إلى الاهتمام بتجميع الفقراء وفاقدي السند في هذا المجتمع المتفكك، لإحياء المناسبات الدينية والاجتماعية وتوفير الظروف الملائمة بقدر الإمكان لتعويض دور العائلة والدولة الغائبين.وإن ما يفسر حالة التطوع المُلفتة لديهم هو شعور الفرد هناك بمواطنته من خلال إحساسه بامتلاكه للأرض وانتمائه إلى المجموعة البشرية التي تعمر هذه الأرض ومن ثمة فهو يشعر أنه معني بالشأن العام ويرغب في المساهمة في معالجة المشاكل التي يطرحها واقعه وتقديم الحلول الممكنة،وبمعنى أكثر دقة إن امتلاك الأفراد للرغبة في الفعل والمبادرة و بالتالي اقتسام سلطة الفعل مع الفاعلين السياسيين والتخلص من الثقافة القَدرية التي تُميز المجتمعات المتخلفة ،التي تشعر باستمرار أن من يحكمونها هم غرباء عنها وأن الوطن أصبح مُرتهن لدى هؤلاء فيضعف الشعور بالانتماء إليه والدفاع عنه.
إن الفرد في المجتمعات المتقدمة يرى في العمل المدني حق وواجب وهو شعور طبيعي في مجتمعات تستبطن شعور التملك للأرض والانتماء للمجموعة التي تعمّرها، وهو ما يفسر أن عدد الجمعيات في الولايات المتحدة بلغ 1.14 مليون جمعية في بداية السنوات الألفين وهي تساهم من خلال عملها بـ8.5 % الناتج الوطني الخام وتشغل 9.3 % من اليد العاملة النشيطة وتساهم الحكومات الأمريكية بـ 250 مليون دولار سنويا في دعم نشاط الجمعيات ،علما أن هذه المساهمات تقتطع من المبلغ الجملي الجبائي للمواطن،و تخصص 36 % من هذه الهبات للأنشطة الخيرية الكَنسية و 13 %.تخصص للتعليم و8.6 % للصحة و 5.3 % للثقافة وتدير شؤون هذه الجمعيات الخيرية مجالس إدارة متطوعة لها نفوذ قوي وتحتل مكانة اجتماعية هامة لما يوليه المواطن الأمريكي من أهمية للأعمال الاجتماعية المشتركة.
هذه الجمعيات والمنظمات نسأت وترعرعت داخل الكنيسة ومن ثمة تنوعت أشكالها وأنشطتها خارج أسوار الكنيسة لتشمل كل أصناف الأنشطة والحالات الاجتماعية ومع تطور الاقتصاد الأمريكي وازدهاره خارج حدود الولايات المتحدة،نقلت هذه الجمعيات نشاطها خارج حدود الولايات المتحدة وتحولت في أغلبها إلى منظمات دولية غير حكومية (إذ أنه في الحقيقة لا يوجد فرق بين مفهوم الجمعية والمنظمة وقد تم استعمال مصطلح “منظمة” منذ إنشاء الأمم المتحدة سنة 1945 حيث أشار الفصل 71 من النسخة الفرنسية من وثيقة تأسيس الأمم المتحدة ،أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي يمكنه أن يعتمد على استشارة المنظمات الغير الحكومية العالمية والوطنية بالنسبة للمجالات التي تعنيه، ونشير هنا إلى وجود صنف آخر من المنظمات الغير حكومية وهي منظمات بين الحكومات مثل الأمم المتحدة واليونسكو.. ( ONG (.
و قد تطور حجم الجمعيات الأمريكية والغربية عموما و تحولت تسميتها إلى منظمات غير حكومية (بمعنى أنها أصبحت أكبر من حيث الحجم والتمدد) لتمارس نشاطها بتعاون لصيق مع المصالح الحكومية الأمريكية والغربية وليتحول نشاطها (إضافة إلى عملها الظاهر) إلى عملية ترويج مستمرة للقيم والأفكار الأمريكية والغربية عموما ومن أهم هذه القيم والمفاهيم هي الديمقراطية الليبرالية وحرية تنقل رأس المال والبضاعة وتحييد دور الدول الوطنية في الأنشطة الاقتصادية إضافة إلى قيمة حقوق الإنسان والمرأة و غيرها من الحقوق السياسية والفكرية التي أنتجها النظام الليبرالي الغربي واعتبرها قيم كونية، ليس لأنه مقتنع بامتلاك الحقيقة الكونية وإنما لأنه فهم (أي الغرب ) وبشكل مبكر أن هذه القيم والمفاهيم تخدم مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وتضمن له سيطرة كاملة وغير مكلفة من خلال خلق سوق واسعة تحمل نفس القيم التي أشرنا إليها وتتقارب معه حتى في الأذواق من حيث الملبس والمشرب وميولاتها الموسيقية والفنية عموما والاهتمامات اليومية …
وإن ما نلاحظه هو أن نشاط هذه المنظمات لم ينعزل يوما عن اهتمامات مجتمعاتها الوطنية، ونود أن نتوقف قليلا عند تعاطي هاته المنظمات مع موضوع العولمة في بلدان المنشأ،حيث نلاحظ أن نفس المنظمات التي تنشط في المحيط العربي مثلا، في إطار العولمة لا تتردد في الوقوف إلى جانب فئات هامة في مجتمعاتهم أصبحت تعبر بصوت عال عن معارضتها للعولمة التي أصبحت تهدد خصوصياتها الاجتماعية والثقافية وكذلك اقتصادياتها الوطنية،إذ نرى مثلا منظمة أوكسفام oxfam البريطانية المنشأ تكثف من نشاطها داخل البلدان الأوروبية عبر شبكاتها وتحشد الدعم المالي له قصد الدفاع عن هذا التوجه، إذ بلغت ميزانيتها في هولندا 145 مليون يورو سنة 2002 و 270 مليون يورو في بريطانيا في نفس السنة وقد توقع دينيس كوسنور في صحيفة الأصداء les échosالفرنسية سنة 2003 أن ترتفع ميزانيتها بنسبة 49 % في السنوات اللاحقة بسبب دعمها للتيارات المناهضة للعولمة في بلدانهم.
ولنفس الأسباب ارتفعت ميزانية منظمة كار care الأمريكية إلى حدود 367 م.يورو وقرين بيس إلى 165 م.يورو وكذلك شبكة wwf التي ناهزت ميزانيتها 352 م. يورو وأخيرا منظمة eurostepالبلجيكية والتي أسست شبكة من 19 منظمة عبر 13 دولة في أوروبا و بلغت ميزانيتها 650 م.يورو، حيث تنشط هذه الجمعيات أو المنظمات في بلدانها بقوة لمساندة المسيحيين الكاتوليك الذين يرفضون الطلاق وعمليات الإجهاض والزواج المختلط ويدعمون الفلاح والصناعي الفرنسي أو البريطاني الذي يشتكي من المنافسة الخارجية بدعوى أن الإنتاج لدى المنافسين أقل كلفة .
نرى إذا أن ما تعتبره هذه المنظمات قيم كونية بديهية كالقول بأن العولمة هي الحل العلمي الصحيح للإنسانية في المستقبل وبضرورة تجاوز جملة من المفاهيم التي فقدت شرعية وجودها مثل مفهوم السيادة الوطنية وضرورة حماية الاقتصاد الوطني والدعوة لحرية تنقل الأشخاص ورأس المال وإلزامية تخلي الدولة عن الدور الاقتصادي والاهتمام بالدور التحكيمي مع الدعوة الملحة لإعلاء قيمة الحرية وحقوق الإنسان و الحكومة الرشيدة بالمعنى الغربي بالطبع،فإنه أولا ،من الملفت للنظر كيفية تفاعلها مع مصالحها الوطنية ومدى حضورها في المشهد الفكري والإعلامي والسياسي انتصارا لأفكار مناقضة،وثانيا مدى قدرتهم على حذق لعبة القفز على الحبال ونقصد حبال اللعب على المضمون النظري لخطابهم،فهم من دعاة الدفع نحو عولمة ديمقراطية ليبرالية تتبنى فكرة السوق الحرة ،المتكافئة،الضامنة لحرية تنقل المال والأفكار والأشخاص ولكنهم يقبلون الحملات الفكرية والسياسية الشرسة في بلدانهم والتي تدافع عن ثقافتها أمام موجة الهجرة من البلدان الإفريقية والآسيوية كما يدعون، وكذلك حاجة هذه الدول للحفاظ على صحة اقتصادها أمام المنافسة الدولية عندما يرون فيها تهديدا لاقتصادياتهم الوطنية ولعل صراع كل الغرب بكل مكوناته مع الصين كاف للتدليل على ازدواجية خطابهم.
أما الوجه الآخر السلبي للمنظمات الدولية كما نراه فهو سعيها منذ عشرين سنة إلى التخلص من البعد التطوعي بحثا عن المردودية التي تؤمن لها التمويل من طرف الجهات الممولة وبالتالي الاستمرارية في العمل وقد تطور هذا التوجه في السنوات الأخيرة إذ تحول الأعضاء المتطوعون إلى موظفين لهم أوقات عمل إدارية كما تحول عملهم إلى خدمات مقابل أجر،أما الأكثر أهمية فهو تعمد الجهات الممولة الدولية إلى الاهتمام بالجانب الكمي في عمليات تقييم المنظمات والجمعيات حيث أصبح الجانب الذي يهمهم هو عدد المنتفعين بالمساعدات وليس مدى تأثير هذه المساعدات على حياتهم وتقديم تقارير وجداول مفصلة حول اللقاءات التي أجرتها المنظمات والجمعيات مع المجموعات المستهدفة وقيمة المساعدات المالية والمادية المقدمة دون البحث في مدى تأثير العمل الجمعياتي على إحداث تغيير ملموس ،ولو على المدى المتوسط ، في حياة الفئات المستهدفة.
وقد تحولت عديد المنظمات والجمعيات إلى بيروقراطيات ثقيلة وبطيئة ،لا تسعى إلى بذل الجهد لفهم المجموعات أو الأحداث المستهدفة وتكتفي بجمع المعطيات الكمية وتقديم قراءات سطحية لا تفيد في توفير حلول موضوعية لمشاكل الواقع المادي .
كتب كل من جون فرايس وآن لوبياج وهما باحثان فرنسيان معاصران،أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية الدولية والمحلية ساهمت في تعقيد دور المنظمات الغير حكومية حيث أن هذه المنظمات التي تهدف إلى إحداث تحولات في الاتجاه الذي تراه مناسبا،ضمن منطق التضامن العملي بين المنضمات وباقي الفاعلين،وأمام جملة المتغيرات الجديدة أصبح دورها أكثرا تأثيرا في المستويين المحلي والدولي وهو ما دفعها إلى إعادة النظر في أساليب عملها ونظرتها للعناصر التي تعمل لديها حيث أصبح البعد المهني والتخصصي محددا في عملية التشغيل مقابل غياب مفهوم العمل التطوعي الذي ينبني على قناعات إنسانية أو دينية .. ،وأصبح صعبا التفريق بين من يعمل تطوعا وعن قناعات إنسانية وأخلاقية ومن يمارس مهنة صرفة.
والسؤال هل أن تغيير السياسات ومنهجيات الاتصال وإدخال عنصر التأجير وتحديد زمن العمل والتخصص في مجالات محددة في إطار التنافس البيني والسعي إلى إقناع الجهات الممولة ،من خلال تقديم دراسات وتقييمات فنية تنجزها مكاتب دراسات لا علاقة لها بالعمل التطوعي بل تنجز أعمالا بمقابل مالي تقدمه لها بيروقراطية لا علاقة لها بالعمل الجمعياتي.
هل أن هذا الأسلوب الجديد في العمل يسمح للمنظمات بالقرب من الواقع الموضوعي للمجموعات البشرية وطرح تشخيصات وتصورات لحلول مشتركة تمثل استجابة علمية لحاجيات الموضوعية ؟، تلاحظ السيدة آن لو نالو أن المنظمات الكبرى أصبحت تتميز بـ : تصرف إداري متطور واستراتيجية مالية دقيقة،عمليات تأجير متزايدة ترتكز على المؤهلات العلمية والفنية و ليس التطوع ،تصرف عقلاني في زمن العمل، وعمل قادر على التأقلم مع السوق وطلبات “الحرفاء”،استراتيجية تشبيك توفر قدرة على مواجهة المنافسة المتزايدة وتقديم عمليات تشخيص فنية دقيقة تعتمد على تقنيات متطورة.
وإن أول درس نتعلمه من دراساتنا المقارنة لتجارب المجتمعات المختلفة ومنها المجتمعات الغربية التي تتفوق في هذه اللحظة التاريخية ، أن هذه المجتمعات أنتجت عبر صيـرورات تاريخية طويلة حلولا و وسائل متعددة لمجابهة واقعها المتحول، تخلت عن بعضها وتمسكت بالبعض الآخر ولم ترى ضيرا في احترام قوانين الحركة في مجتمعاتها من خلال التمسك بما ثبت نجاحه من حلول وأساليب في مواجهة الواقع والتخلي عما أثبت الواقع فشله دون حرج ولكننا نرى أن المبدأ الأساسي لديهم هو مبدأ حرية العقل البشري في طرح السؤال والبحث المستمر عن الإجابات العقلانية الكفيلة بمساعدته على الاستجابة لحاجته المتجددة.التفكير في إنزالها
أما الدرس الثاني فهو أن كل الأشكال التنظيمية التي ظهرت عندها كانت نتيجة لتفاعل الإنسان مع واقعه حيث كانت الجمعيات أسلوبا محليا في فترة متقدمة في أوروبا لتنظيم التجارة كما كانت الإدارة البيروقراطية شكلا آخر متقدما للتنظيم البشري ابتُـكر للتحكم في نتائج الثورة الصناعية والاقتصادية عندهم، و كانت الأحزاب السياسية استجابة أخرى لحاجة الناس للتعبير عن آرائهم إثر إنجاز ثوراتهم السياسية على الملكية والإقطاع ،لذلك نعتبر أنه من حقنا بل من واجبنا الفكري أن نتساءل حول مغزى الأشكال التنظيمية والمفاهيم الجديدة التي ظهرت بالوطن العربي وأصبحت تشكل إطارا للفعل اليومي لكل المهتمين بالشأن العام ،على الأقل في مجال الفعل المدني والسياسي ،ودون أن يكون هناك وعي حقيقي بمضامين هذه المفاهيم وكيف تشكلت ،لذلك بدءنا الحديث بطرح جملة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية لعلها تساعدنا على الفهم .
واقع الجمعيات في ظل المنظومة السياسية السابقة
لا نريد أن نسترسل في شرح ما أصبح اليوم حقائق معلومة ولكننا نود الإشارة إلى أن المجتمعات الغربية وبغض النظر عما يمكن أن ننسبه لها من أخطاء ،فهي قد تفاعلت دائما مع واقعها كما هو واستنبطنت خلفياتها الثقافية والتاريخية لتبتدع الحلول الملائمة التي تراها صالحة ولم تضفي عليها قدسية عمياء بحيث يمكن تصحيح المسارات إن ثبت عجز هذه الحلول عن الاستجابة إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي، غير أن نفس المجتمعات الغربية قد سعت بكل ما تملك من وساءل اتصال إخبارية وسينمائية وفنية إضافة إلى الضغط الاقتصادي والاجتماعي لفرض قيمها وتصوراتها لنمط الحياة وللفعل الاقتصادي والاجتماعي على الآخر واستلاب وعيه مهما كان لونه أو جنسه مؤكدة أن هذه التصورات هي حقائق كونية غير قابلة للنقاش،وقد كانت هذه الدول تعي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أن تفوقها الصناعي (رغم نتائج الحرب)وتقدم اقتصادياتها يحتاج أسواقا واسعة وأنه لم يعد بإمكانها الإنفاق على الجبهات العسكرية المفتوحة،وانتبهت باكرا إلى أنه يمكن تحقيق نفس النتائج وربما أكثر وبكلفة أقل.هكذا نشأ ملتقى دافوس ونادى بحرية تنقل رأس المال والأشخاص وفتح الحدود وحيادية الدول في إدارة اقتصادها،حيث يجب أن تكتفي بدور الطرف الراعي والمعدل للاقتصاد الوطني،فاتحين بذلك كل أسواق العالم أمام بضاعتهم،وقد استعمل الغرب لفرض تلك التصورات مؤسسة البنك الدولي عبر ما يفرضه على الدول المقترضة من قيم يرونها حداثية و أهمها مفهوم الديمقراطية الليبرالية وفي مستوى ثان عبر المنظمات والمؤسسات غير الحكومية التي تعمل تحت غطاء مؤسسات محايدة مثل الأمم المتحدة والمؤسسات المتفرعة عنها كمنظمة اليونسكو ومنظمة العفو الدولية والشفافية الدولية،ومن ثمة ستتكون شبكة منظمات دولية عابرة للقارات،تمولها المؤسسات المذكورة ثم ستتعدد خطوط التمويل العالمية لنفس الأغراض الغربية المذكورة آنفا.
من جهة ثانية نرى أن ما اصطلح على تسميته بالنخب الفكرية ،العربية و التونسية،التي تقبلت هذه الأشكال الاجتماعية للنشاط كما تقبلت المفاهيم التي يتم الترويج لها بحماس، تفتقر للعقلانية المطلوبة عند مواجهة المشكلات الاجتماعية المتجددة ،حيث إذا ما استثنينا الجمعيات التي ظهرت في مرحلة الاستعمار المباشر والتي رفعت شعار التحرر الوطني كما سعت إلى مساعدة فئات واسعة تحتاج إلى المساعدة المادية وإلى التعليم والصحة،فإن باقي الجمعيات التي ظهرت في العشريات الأخيرة ركزت اهتمامها على المجالات الحقوقية دون الانتباه إلى البعد الاجتماعي المتعلق بالتدريس والصحة والعمل الضامن لكرامة الإنسان واستقلاليته.
و نتذكر أنه في السنوات التسعين والألفين كانت الجمعيات في تونس تنشأ بمقتضى قرارا سياسيا مثل جمعيات صيانة المؤسسات التربوية التي أمر بإنشائها الرئيس زين العابدين بن علي (تجاوز عددها 4آلاف ) أو الجمعيات المائية وهي جمعيات أحدثت بمقتضى منشور من وزارة الفلاحة للتصرف في مياه الري والشراب المتأتية من شبكات أنجزتها إدارة الهندسة الريفية لوزارة الفلاحة، التي كانت تؤمن عملية التصرف في هذه الشبكات المائية وصيانتها والمثال الثالث هو الجمعيات التنموية التي أنشأت كذلك بقرار حكومي لتتولى عملية توزيع قروض مالية صغرى على الشبان وكذلك كل الراغبين في بعث مشاريع صغرى دون ضمانات بنكية.
وأخيرا مجمعات التنمية الفلاحية وهي شبكة من الجمعيات التنموية الصغرى التي تجتمع في شكل مجمع ( GDA )،إضافة إلى الجمعيات الثقافية (التي كانت تسمي لجان ثقافية ) والاجتماعية (جمعيات المكفوفين وفاقدي السند وكبار السن ..) ونرى أن كل هذه الجمعيات وعددها تجاوز الـ 8 آلاف جمعية كانت نتيجة قرارات أخذها رئيس الدولة أو مصالح الدولة ،بما فيها تلك التي كانت تنفذ مشاريع فلاحية بالتعاون مع البنك الدولي وقد قدمت السلطة الحاكمة هذا الإجراء على أنه خيار شعبي تلقائي بينما يعلم كل مطلع أن كل الأصناف المذكورة من الجمعيات قد تم إنشاءها معتمدو المناطق ‘المعتديات’ بأوامر صادرة عن الحكومة ،وقد تم تعيين أغلب رؤساء الشعب المهنية أو الترابية أو مساعديهم ( وهي أصغر الوحدات السياسية للحزب الحاكم ) لترأس هذه الجمعيات وكانت السلطة السياسية تحرص على استيفاء الجوانب القانونية الشكلية حتى يُقدم مشهد “المجتمع المدني” القائم على أنه إنتاج مدني،بينما إذا ما استثنينا المنظمات الكبرى التي تنشط في المجال النقابي والحقوقي فإن كل أو جل الجمعيات كانت من صنع النظام السياسي الحاكم.
وقد أنتج هذا الواقع شعورا لدى المواطن بأن هذه المؤسسات هي أدوات للنظام القائم وكان يتعامل معها من منطلق مصلحي صرف،أي أنه لم يكن يؤمن بمصداقيتها وارتباطها الفعلي بمشاغله الحقيقية .
لذلك فإن العمل الجمعياتي كاد يكون منعدما قبل سنة 2011 ،ولو حاولنا فهم ظاهرة الاستقالة الجماعية علاوة على ما ذكرناه من خيارات سياسية، فإن شعور الأهالي بالدونية تجاه العاصمة بكل ما تمثله من سلطة واحتكار للقرار وقدرة على مصادرة مصيرهم دون أن يكون لها علاقة أو معرفة بهم من بعيد أو قريب،هذا الشعور الذي مرّ عليه ما يكفي من الزمن ليتأصل في الوعي الجمعي ويتحول إلى سلوك سلبي تجاه الفعل والحركة أو المبادرة،قناعة منهم أنه لا فائدة ترجى من المحاولة سوى ربما،التعرض للإهانة التجاهل أو الزجر لتذكيرهم أن أولياء أمرهم أدرى بوضع الدولة وإمكانياتها.
المجتمع المدني بعد سنة 2011.
قبل محاولة تشخيص وضع العمل الجمعياتي والتوقف عند الإضافات التي تم إنتاجها و مواطن الضعف والتعثر والانزلاق في حالات عديدة بسبب قلة التجربة والمعرفة بهذا المجال وبالمفاهيم التي تؤطره أو تنتشر من خلاله ،دعونا نعود أولا، إلى سنة 2011 التي عرفت تحولا اجتماعيا عنيفا في مضمونه السوسيولوجي والثقافي خاصة، رافقه عنف مادي ونفسي، لازال يطفو على السطح من حين لآخر بفضل الحاضنة الثقافية والشعبية الموجودة في تونس دون أدنى شك.فقد سجلنا غيابا للنشاط المجتمعي طيلة العشريتين السابقتين لأحداث 2011
فقد اضطرت عديد الجمعيات الموسيقية والمسرحية والرياضية إلى تجميد نشاطها منذ سنوات بسبب انعدام الدعم المادي وهو ما يعني حتمية مراجعة هذه الإحصائيات التي يتم اعتمادها حاليا وبشكل رسمي،بينما شهدت السنوات 2011 وما بعدها عودة مكثفة إلى الفعل السياسي ، من خلال استعادة الأجيال المتعاقبة انتماءاتها الإيديولوجية التي تبنتها خلال حياتها التلمذية والطلابية في السنوات الستين وإلى غاية السنوات الثمانين وتم تكوين أحزاب وحركات سياسية انبنت على الولاءات الفكرية القديمة سواء كانت القومية أو الماركسية أو الإسلامية بنفس المنهجيات والمضامين والأحلام فكانت الحوارات الفكرية امتدادا لحوارات طلابية عُلقت في فترة الرئيس بن على وهو ما يعني عودة الرغبة الطبيعية في الفعل ولاحظنا منذ ذلك الحين البحث الجماعي عن عقد اجتماعي ينظم الحياة المشتركة.
كما سجلنا ارتفاعا في عدد الجمعيات المدنية في كل المجالات وقد سُمح رسميا (نظريا على الأقل ) بتأسيس جمعيات على أساس القانون عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011،ورغم التخبط الحاصل في ضبط عدد هذه الجمعيات من طرف رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية وبعض المراكز المختصة ، فإن آخر الإحصائيات المتوفرة إلى غاية جويلية 2019 و التي أصدرها مركز إفادة المحدث بمقتضى الأمر عدد 688 لسنة 2000 مؤرخ في 05 ماي 2000 و الذي يهتم برصد عمل الجمعيات والمساهمة في تكوين أعضائها والقيام بعمليات الاستشراف ،ويبلغ عدد الجمعيات 22734 جمعية وأكثر من 24 ألف جمعية في سنة 2021 ،وهي تتوزع (حسب نفس المصدر) إلى :7.5% جمعيات علمية و %11.2 جمعيات رياضية و 21.4% جمعيات تربوية (مدرسية) و 11.2% جمعيات خيرية و%18.6 جمعيات ثقافية إضافة إلى الجمعيات الحقوقية والمواطنة والبيئة والنسائية والشبابية وتمثل مجتمعة حوالي 12% .
ونلاحظ أن هذه الجمعيات تتوزع على جهات البلاد بشكل غير متناسق حيث تمثل نسبة الجمعيات في ولاية تونس 19.9% وهي تحتل المرتبة الأولى وبهامش كبير بالنسبة لبقية الولايات حيث نلاحظ أن أقرب الولايات لولاية تونس هي جهة صفاقص بنسبة 7.9 %ونابل بنسبة 6.2 % و أريانة بنسبة 5 %وفي المرتبة الثالثة نجد ولاية سوسة بنسبة 4.7% والمنستير بنسبة 4.1% وبن عروس بنسبة 4.1 %وبنزرت بنسبة 4.1 %أما باقي الولايات فتتراوح نسبة تواجد الجمعيات بها بين 1 و 3% .
ويمكن فهم هذا التوزيع الجغرافي للأنشطة المجتمعية على تونس العاصمة تحديدا، ثم بالمراكز العمرانية الكبرى مثل ولاية صفاقص ونابل ثم سوسة والمنستير وهي مراكز تتوفر على نسب تعليم عالية إضافة مقدرة شرائية مقبولة وعندما ندقق في هذه الإحصائيات نرى أن أغلب الجمعيات التي تنشط بهذه المدن تهتم بالنشاط الثقافي والعلمي والرياضي ،إذ توجد بولاية تونس 743 جمعية علمية و795 جمعية ثقافية و381 جمعية رياضية وكذلك الشأن بولايات الصف الثاني المذكورة،بينما تتضاءل هذه الأرقام إلى حدود 7 جمعيات علمية بقبلي و7 بتطاوين و4 بالكاف و33 جمعية بزغوان و 303 جمعية ثقافية بكل الشمال الغربي (رغم استغرابنا لهذا الرقم دون التشكيك في أرقام مركز إفادة ولكننا لا نرى أثرا ماديا لهذا الرقم ) ،وإذا علمنا أن نوعية الأنشطة تعبر عن مستوى العيش واهتمامات المواطنين فإن هذه الأرقام تعبر بشكل واضح عن طبيعة نمط عيش السكان وقدرتهم على توفير الجهد أو الاهتمام الكافي للنشاط الثقافي أو العلمي أو الرياضي و التفاوت الجهوي الحاد الذي تعيشه البلاد و الذي يكشف انعدام التوازن في الاستثمار العمومي بين العاصمة والمناطق “المفيدة” وباقي المناطق في ما يتعلق بالبني تحتية والتجهيزات الضرورية لهذه الأنشطة التي تكاد تكون غائبة في الجهات الضعيفة اقتصاديا.
وإنه من الظروري التأكيد على أن عدد الجمعيات الحقيقي هو أقل بكثير مما تقدمه الأجهزة الرسمية، ودليل ذلك الحديث عن وجود 4586 جمعية مدرسية (وهي أرقام رسمية ساقة لسنة 2011 ) في حين أن معاينة الواقع الميداني لمؤسساتنا التربوية يبين أن حوالي 20% فقط من هذه الجمعيات لا تزال تمارس نشاطا حقيقيا وقانونيا ،وكذلك الأمر بالنسبة للجمعيات التنموية (التي أُحدثت بمقتضى قرارات وزارية قبل 2011 ) ،إذ نعلم بحكم المعايشة والملاحظة الميدانية أنه لم يعد هناك وجود لحوالي 2200 جمعية باستثناء القليل منها والتي تهتم بتوزيع الماء الصالح للشراب،مع العلم (للتذكير) أنه لا يمكن اعتبار هذه المؤسسات جزءا من المجتمع المدني بما أن السلطة السياسية هي التي اتخذت قرار إنشاءها وهي بالتالي لا تعدو أن تكون سوى آلية من آليات التحكم والتعديل الرسمي للسلطة الحاكمة.
وبالعودة لوجود الجمعيات بالجهات وعلاقتها بنمط الحياة وبالمشاغل الحقيقة للسكان فإن هذه الإحصائيات تبين أن الشباب في الجهات الفقيرة اتجه أساسا إلى الجمعيات التنموية ( 208 جمعيات بالشمال الغربي ) والجمعيات التي تسدي القروض الصغرى (31 جمعية بنفس الإقليم ) وهي نسبة قريبة من ولايات سوسة والمنستير والمهدية وصفاقص (عدد الجمعيات التي تسند قروض صغرى 58 )رغم الفارق الكبير في الحجم الديمغرافي بين الولايات المذكورة،ونلاحظ عموما أن اهتمام الجهات كان ايجابيا من حيث الرغبة في التصدي للمشكلات الحقيقية ولو بوسائل محدودة أي الجمعيات، لكن هذا الاهتمام بالبعد الاجتماعي لم يلغي اهتمام فئة من الشباب(بعد 2011 ) بمجالات جديدة وهي حقوق الإنسان والبيئة و الحوكمة و سعي هؤلاء للتنظم بكل الأشكال الممكنة (جمعيات وداديات ومنظمات.. )، كما نلاحظ بالاعتماد على المتابعة الميدانية أن العمل الجمعياتي استأثر باهتمام فئة الشباب من الجنسين وهي علامات ايجابية حول قدرة المجتمع على التحول الإيجابي وتوفير أسباب الفعل والحركة لتغيير واقعا ماديا يشكو من جملة من العلل.
غير أن هذا الاهتمام ،الذي نعتبره ظاهرة صحية تدل على قدرة هذه المجموعة البشرية (تونس) ، على التأقلم مع المتغيرات الكونية الجديدة، يطرح تحدّعلى كل من يريد أو يستطيع أن يُعمل العقل، يتمثل في فهم ما يحصل والتريث في التعامل مع الأحداث والمفاهيم والأفكار الواردة علينا بسرعة وبكثافة .
وقبل الخوض في تحليل هذه الظواهر التي حاولنا متابعتها بإيجاز، لنذكّر أن البلاد التونسية باشرت عملية تنظيم عمل الأفراد والمؤسسات التي رغبت في تقديم خدمات بشكل تطوعي منذ سنة 1922 بإصدار أمر عليّ بتاريخ 22 ماي 1922 ونقح بأمر ثان في سنة 1944 بتاريخ 21 ديسمبر 1944 لتنظيم عمليات الاكتتاب العمومي وهما أمران كانا يهدفان ( إلى جانب مجالات أخرى ) إلى تنظيم نشاط الأشخاص والجمعيات الخيرية التي اهتمت بمساعدة الأهالي في المجال الصحي والتعليمي ومقاومة الأوبئة ..أي أن النشاط العمل الجمعياتي تجاوز القرن من الزمن وهو ما يفترض تجذّر ثقافة العمل التطوعي ضمن الأطر القانونية المتفق عليها في تونس ، غير أن واقع العمل الجمعياتي في تونس يطرح العديد من الأسئلة حول أشكال التنظيم ومضامينه وعلاقة هذه الأنشطة أولا بالأطر القانونية وثانيا بالواقع المعقد لمجتمعنا في كل المجالات وقدرة الفئات التي تتولى النشاطات التطوعية على فهم هذا الواقع و تقديم الحلول العملية له (على محدودية هذه الحلول بالنسبة للحاجات الوطنية في جملتها ).
كنا ذكرنا أن النظام السابق كان يلجأ إلى إحداث جمعيات مثل الجمعيات المدرسية والتنموية للتخفيف من حدة المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها الفئات المهمشة ،ومن البديهي القول أن هذه الجمعيات لا تنتمي إلى المجتمع المدني بما أن النظام القائم هو الذي أنشأها وهي بالتالي جزء من الأجهزة الرسمية التي تنفذ السياسات السلطة الحاكمة وقد اندثرت هذه الجمعيات مع سقوط النظام السياسي وبالتالي لابد من مراجعة الإحصائيات المتوفرة،خاصة وأن الجمعيات التي وجدت قبل 2011 تمثل مجتمعة حوالي 32%من مجمل الجمعيات والمنظمات التي شملها تقرير مركز إفادة والأجهزة الرسمية الأخرى، أما ما تبقى من جمعيات ومنظمات(وأغلبها أحدث بعد سنة 2011 ) والتي صنفها مرصد إيلاف إلى %36.5 جمعية وطنية و38% جهوية و15% محلية وحسب نفس المصدر فإن 19% من الجمعيات الخيرية تمارس نشاطا مختلفا عن أهدافها المعلنة في قانونها الأساسي و11% تمارس نشاطا سياسيا و 13% تتلقى تمويلها من الأحزاب السياسية كما أن 33% من أعضاء الجمعيات ينتمون إلى أحزاب سياسية و 48% من الجمعيات الحقوقية كذلك تمارس نشاطا لا علاقة له بما هو معلن في قانونها الأساسي .
كل هذه المعطيات تدفعنا للتساؤل حول طبيعة هذه الظواهر الجديدة في تونس حيث يبدو جليا أن ظهور أغلب هذه الجمعيات لا علاقة لها بالعمل المدني التطوعي حسب تعريفه، حيث من المفروض تعريفا أن الجمعيات هي التقاء واع لشخصين أو أكثر لتعاطي نشاط ذو فائدة محلية أو وطنية دون مقابل، ونُظيف أن أهداف الجمعية محددة سلفا ضمن قانونها الأساسي كما أن عملية تمويل الجمعيات منظم بمقتضى القانون عدد 88 لسنة 2011 ،غير أن ما نرصده هو أن هناك إخلالات بالجملة في ما يتعلق بنشاط الجمعيات في تونس وكذلك بعمليات التمويل وجهات التمويل ولعل ضعف إدارة رئاسة الحكومة المشرفة على تكوين الجمعيات وعلى مراقبة نشاطها هو سبب رئيسي في ما حصل من فوضى وعشوائية في بعض الحالات ومقصودة في أغلب الحالات الأخرى ،خاصة عندما نعلم أن عددا هاما من هذه الجمعيات ارتبط عملها ببرامج وأهداف أحزاب سياسية علما أن هذه الجمعيات ترفض التصريح بمصادر تمويلها.
هناك وجه آخر لعمل الجمعيات في تونس ،انتشر بعد 2011 وهو صنف الجمعيات التي ارتبطت بشكل مباشر بجمعيات ومنظمات أجنبية على قاعدة القبول بما تقدمه هذه المنظمات من برامج ومفاهيم ومعطيات ،تُسوق لها على أنها معطيات وحقائق علمية،كونية غير قابلة للدحض أو التشكيك في مضمونها أو في الجهة التي تسوق لتلك البرامج والمفاهيم ،والمطلوب من الجمعيات التونسية أو غيرها هو العمل على تنفيذ تلك البرامج ونشر الأفكار المنتجة من قبل نسق دولي ليبرالي متوحش دون مراعاة لنسق الثقافات المحلية وما يرتبط بها من قيم مشتركة تحترم الوعي الجمعي مهما كانت علاّته وتدفع نحو أنساق فكرية كونية (غربية) تتجاوز الهويات نحو مجتمع كوني ينبني على جملة من القيم الليبرالية ،وما شدّ انتباهنا هو التقبل السهل لجملة الأفكار والمفاهيم من قبل الشباب التونسي والاجتهاد والتنافس في ترويجها بتمويلات أجنبية دون إعمال العقل بسبب عجز فكري وغياب القدرة على إعادة النظر في ما يقدم لهم من برامج في مجال التكوين الحقوقي أو المواطني أو في مجال حقوق النوع الاجتماعي مثلا،إذ نلاحظ أن آلاف الملتقيات التي تم تنظيمها منذ 2011 في نزل فاخرة ، يصر منظموها على ترديد جملة من المفاهيم بشكل سطحي إلى حد المبالغة وباستعمال مصطلحات أنجليزية أمام حضور لا يحذق هذه اللغة وما يستمعون إليه من تدخلات،بينما نلاحظ مدى رضا المنشطون لهذه اللقاءات عن أنفسهم وإحساسهم بالثقة في أنفسهم وفي ما يكررونه من مفاهيم مُبهمة أمام جمهور يتابعهم بأعين جاحظة وأفواه شبه مفتوحة،لذلك نتساءل أما حان الوقت لنستعيد عافيتنا ونُعمل الفكر في ما نتلقاه ونفاخر به على المنصات التلفزية وفي النزل الفخمة،وكأن الحديث في الديمقراطية أو الحوكمة الرشيدة أو حقوق النوع الاجتماعي أو.. أو ، غير ممكن إلا في النزل من صنف أربع أو خمس نجوم، وهل تم يوما إدراج مسألة مناقشة مدى ملائمة المفاهيم المطروحة لسوسيولوجية الفئات المستهدفة في ورقات العمل لآلاف الندوات التي جرت في تونس ،إذ لا يستقيم أن تعقد مئات الندوات في العاصمة وفي فضاءات جدُ فخمة للنقاش في مشاكل المرأة الريفية من قبل متدخلين لا معرفة لهم بجغرافية و لا سوسيولوجية البلاد، كما أنه لا يستقيم طرح حلول جُربت في فضاءات اجتماعية وجغرافية وتاريخية على مناطق تختلف جذريا عن البلدان موضوع التجربة ونتحدث تونس في هذه الحال.
لقد أثبتت التجارب التي قادتها عدة منظمات دولية مثل : F.A.O. و P.N.U.D.وOXFAM وG.W.Z. و EUROSTEP وW.W.F في القارات الخمس فشل هذه المنهجية وهو ما يفسر تمسك هذه المنظمات ،منذ حوالي 30 سنة بمصطلح المنهجية التشاركية غير أننا نتساءل عن جدوى هذه المنهجية حين يكون موضوع النقاش أو الطرح هي جملة من القيم والتقنيات والمنهجيات المُسقطة ،وقد كتبت مئات الدراسات التي تحدثت عن مخرجات هذه التجارب وبينت محدودية هذه المنهجيات وما تسببه من نفور الجماعات المستهدفة بعد الوقوف على النتائج المحققة ولكن بشكل متأخر .
ذلك أن تلقي نماذج فكرية وسلوكية جاهزة ظهرت في الغرب وقرر موظفون بمكاتب الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو غيرهما من المنظمات الدولية تصديرها لمجتمعات أخرى وخاصة مجتمعات العالم الثالث حيث أصبح تطبيق أسس هذه النماذج (أو المناويل ) شرطا أساسيا لدى البنك الدولي أو الصندوق الدولي أو الأمم المتحدة ،قبل الموافقة على إسناد القروض أو القبول بمنظماتنا وجمعياتنا للمشاركة في برامجها والحصول على التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه البرامج، و لنا في علاقة دولة الصين بمنظمة التجارة العالمية وفرضية التحاق تركيا بالإتحاد الأوروبي وانضمام تونس إلى السوق الأوروبية المشتركة أمثلة واضحة حول فرض جملة من القيم الحقوقية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية و نرى أن طرح جملة من المفاهيم والقيم مثل حرية الأقليات وفرض مفهوم النوع الاجتماعي ومسألة الإرث وبعض الحقوق في صيغتها المطلقة في تونس ليس صدفة بل هو ثمرة مئات الملتقيات التكوينية خلال السنوات الأخيرة بتمويل من المنظمات الأجنبية وإشراف مباشر من قبل أعضاء هذه المنظمات.
ونستطيع الإدعاء أن ما تقدمه هذه المنظمات ليس كله مرفوضا أو غير متصل بواقعنا الاجتماعي أو أنه جزء من مؤامرة تحاك ضدنا لسلبنا سيادتنا أو فسخ هوياتنا،إذ أن واقع الأشياء أكثر تعقيدا ويصعب القبول بالقول أن كل منظمات الدنيا والعاملين بها من علماء وفنيين وإداريين وعملة ليس لهم من اهتمام سوى محاصرتنا نحن و تزييف وعينا بواقعنا من أجل سلبنا إرادتنا وأننا نحن،أناس أسوياء نملك من الوعي والقدرة على الفعل ما يمكنه أن يجعل منا مجتمعات متقدمة وحرة،يقول ماكس فيبر أن الهيمنة تتطلب فعل وقبول بالفعل وبالتالي فإننا نعتقد أنه إذا كانت رغبة بعض الدول الغربية أو الجهات في الهيمنة واقعا لا يقبل الدحض فإن منطق الأشياء يفترض أن نتساءل نحن حول أسباب التقبل السهل والسريع لدينا بالأنماط الثقافية والمجتمعية المقدمة والإيمان بحقنا بل من واجبنا نحن كذلك أن نُعمل العقل في ما يمكن أن نقبل به من أفكار ومفاهيم وأنماط عيش نابعة من واقعنا نحن،فالتحدي الواقعي الحقيقي إذا، هو تحدي تحرير العقل ويجب أن يكون المعيار الصحيح لقياس تحرر العقل التونسي والعربي هو مدى استجابة ما نطرحه من أفكار ومفاهيم لواقعنا المادي البسيط كما نعيشه وندركه نحن.
هل نحن بصدد معايشة حالة اجتماعية تتميز بتغير سريع لنمط العيش تقترحه بعض المنظمات في علاقتنا بالآخر وبالدين والسياسة والعمل والتواصل والحوكمة والتقاليد.. أم هل أن ما نراه هي مجرد ظواهر اجتماعية تكشف لدينا حالة الخوف من التغيير الاجتماعي الذي نجهله فنرفضه ؟
وإن أول درس نتعلمه من دراساتنا المقارنة لتجارب المجتمعات المختلفة ومنها المجتمعات الغربية التي تتفوق في هذه اللحظة التاريخية ، أن هذه المجتمعات أنتجت عبر صيـرورات تاريخية طويلة حلولا و وسائل متعددة لمجابهة واقعها المتحول، تخلت عن بعضها وتمسكت بالبعض الآخر ولم ترى ضيرا في احترام قوانين الحركة في مجتمعاتها من خلال التمسك بما ثبت نجاحه من حلول وأساليب في مواجهة الواقع والتخلي عما أثبت الواقع فشله دون حرج ولكننا نرى أن المبدأ الأساسي لديهم هو مبدأ حرية العقل البشري في طرح السؤال والبحث المستمر عن الإجابات العقلانية الكفيلة بمساعدته على الاستجابة لحاجته المتجددة.
أما الدرس الثاني فهو أن كل الأشكال التنظيمية التي ظهرت عندها كانت نتيجة لتفاعل الإنسان مع واقعه حيث كانت الجمعيات أسلوبا محليا في فترة متقدمة في أوروبا لتنظيم التجارة كما كانت الإدارة البيروقراطية شكلا آخر متقدما للتنظيم البشري ابتُـكر للتحكم في نتائج الثورة الصناعية والاقتصادية عندهم، و كانت الأحزاب السياسية استجابة أخرى لحاجة الناس للتعبير عن آرائهم إثر إنجاز ثوراتهم السياسية على الملكية والإقطاع ،لذلك نعتبر أنه من حقنا بل من واجبنا الفكري أن نتساءل حول مغزى الأشكال التنظيمية والمفاهيم الجديدة التي ظهرت بالوطن العربي وأصبحت تشكل إطارا للفعل اليومي لكل المهتمين بالشأن العام ،على الأقل في مجال الفعل المدني والسياسي ،ودون أن يكون هناك وعي حقيقي بمضامين هذه المفاهيم وكيف تشكلت ،لذلك بدءنا الحديث بطرح جملة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية لعلها تساعدنا على الفهم .